تغير الزمن، وعندما يحدث ذلك فليس أمام الراغب فى الاستمرار إلا التكيف مع قواعد الزمن الجديد وقوانينه. نحن نعيش عالما مختلف القواعد والقوانين والوسائل، ويجب علينا أن ندرك هذا الجديد وندرسه ونتعامل معه وفقا لتلك المتغيرات.
لكل زمن رجاله، ولكل عصر أسلوبه، والجماهير التى كانت تقبل فى مرحلة سابقة ما يقدم لها من سياسات وإعلام، أو إعلان عن هذه السياسات لم تعد نفس الجماهير، قد يكون الأشخاص هم أنفسهم، ولكن قبولهم اختلف، واضطرارهم للقبول بما هو مطروح أو مفروض عليهم لم يعد موجوداً، هذا الاضطرار تراجع أو انهزم أمام تغيرات محلية وإقليمية ودولية أدت جميعها فى النهاية إلى تغير المعادلة، ولا أقصد هنا بتلك التغيرات مجرد الحديث عن التغيرات السياسية فقط، ولكن أضيف إليها أيضاً التغيرات المرتبطة بمجالات التقنية والاقتصاد والمعلومات المتاحة وتدفقها.
مناسبة ما أشير إليه هنا مرتبط بالتغيرات التى تشهدها منطقتنا العربية، وهذه التغيرات وضعت الأنظمة وأجهزتها الإعلامية أمام مأزق واختبار مهم، هو كيف يمكن لها أن تتعايش مع تلك المتغيرات الجديدة، كيف لها أن تستمر فى تواصل مع جمهورها الذى لم يكن أمامه من قبل إلا القبول بما يقدم له من غث أو سمين من خلال شاشات وسماعات وأوراق تسود- بضم التاء وفتح السين- بما يروق للنظام- أى نظام- أن يمرره أو يفرض على شعبه أن يتجرعه. اليوم بات الأمر مختلفاً، وأصبحت قدرة المتلقين على اتخاذ قرارهم بإعدام صحيفة أو محطة تليفزيونية لا تستدعى أكثر من قرار الضغط على زر ليصدر حكمه بالإعدام على تلك المحطة أو ذلك البرنامج.. يضاف إلى ذلك تلك الدرجة الملحوظة من تطور وعى المتلقين الذين باتوا قادرين على كشف أى محاولة للتغرير بهم، ورفض أى محاولة لتغييبهم.
هذه المتغيرات جميعها وضعت أمام القائمين على عملية الاتصال بالجماهير عبئاً جديداً، أنا هنا لا أدعو الأنظمة إلى التخلص من وسائل إعلامها، وأيضاً لا أدعو إلى منع القوى السياسية الأخرى الحاضرة فى المجتمع من الحضور إعلامياً بأشكال مختلفة، ولكننى دوماً كنت أتحدث عن وجود إعلام ذكى يتمكن من أن يكون داعماً وسنداً قوياً وحقيقياً للمجتمع وللنظام فى إرساء قواعد صحية لعلاقة المواطن بالدولة والدولة بالمواطن. هذا الإعلام الذكى الذى يصب فى صالح الوطن كله، نظاماً وشعباً، هو ذلك الإعلام الذى يعكس بحق صورة المجتمع وصورة الوطن، هو ذلك الإعلام الذى يفتح المجال أمام القوى السياسية والمجتمعية لكى تكون حاضرة ومعبرة عن رأيها ومواقفها فى حدود القواعد الأساسية التى يتوافق عليها المجتمع، هو ذلك الإعلام الذى ينجح فى أن يكتشف لغة الخطاب الصحيحة التى يصل بها إلى المواطن فى الشارع، واللغة الصحيحة التى بها يمكن أن يحمل طموحات وآمال هذا المواطن إلى أوسع دائرة ممكنة. هو إعلام يلعب دور التواصل بين أطراف المجتمع كله حكاماً ومحكومين.
هذه الصورة ليست صورة مستحيلة التطبيق، ولكنها ممكنة فى ظل شروط عدة، من بينها صدق الرغبة لدى الأنظمة فى استعادة جماهيرها، وصدق وقدرة القائمين على هذه الأجهزة الإعلامية فى لعب هذا الدور، والتخلص من عوائق وموانع عفا عليها الزمن، ولم تعد صالحة للتطبيق فى زمن جديد، لم يعد أمامنا إلا البحث عن كلام جديد لهذا الزمن الجديد، فلم يعد هناك مجال لنجاح حقيقى باستخدام كلام قديم فى زمن جديد.