كان المقاتل الليبى العجوز واقفاً أمام باب استراحة صفية زوجة القذافى على شاطئ البحر المتوسط. عكست ملامح وجهه حالة رضا وارتياح بدا أنهما سيطرا عليه بعد أن تمكن هو وزملاؤه من أهالى مصراتة من السيطرة على العاصمة الليبية طرابلس بعد قتال مع كتائب القذافى امتد لأكثر من ستة أشهر. راح «أسامة الشيبانى» يروى تفاصيل الاستيلاء على العاصمة بفخر كبير، وتوقف فى منتصف الحكاية قبل أن يسألنا «انتوا مصريين مش كده؟ لازم تكتبوا عن المصريين اللى كانوا بيحاربوا معانا واللى استشهدوا وهمة بيدافعوا عن ثورتنا». طفرت الدموع من عينيه فجأة وهو يقول «اكتبوا عن محمد المصرى أبوشيماء اللى اتمنى الشهادة ونالها.. اسألوا عنه زمايله المصريين فى قهوة الزجدة بمصراتة، وهمه يحكوا لكم عنه كل حاجة»، ثم استدار وغاب داخل الاستراحة الواسعة وهو يمسح دموعه بطرف شاله الكبير.
«قهوة الزجدة» هى طرف الخيط. الوصول إليها من مدخل مدينة مصراتة ليس صعباً على الإطلاق، فهى مقر لمئات العمال المصريين الذين يفدون من مصر إلى ليبيا ليعملوا فى مهن مختلفة ويسكنوا نفس الشارع الذى يحمل الاسم نفسه «شارع الزجدة». لم نستغرق وقتاً طويلاً فى التعرف على الشارع، تكفلت الكتابات المدونة على مبانيه بمهمة تعريفنا. كانت الكتابات كلها تكرر عبارة واحدة على كل الجدران «شارع الشهيد محمد المصرى» وأسفل منها دون تاريخ «7/7/2011» فيما بدا أنه تاريخ استشهاد المصرى المقاتل، وقبل أن ينتهى الشارع ظهر باب المقهى مفتوحاً على مصراعيه وكأنه يفتح ذراعيه لاستقبالنا.
داخل المقهى كان هناك عدد من الرجال يجلسون فى حلقة صغيرة يتبادلون أحاديث هامسة، سألناهم عن محمد المصرى ففاجأونا بحكايات أخرى عن مصريين بعضهم استشهدوا فى أحداث الثورة، والبعض الآخر قاتلوا فى صفوف الثوار وعادوا بسلامة الله لم يمسسهم سوء. تطوع محمد درويش 65 سنة، مقاول مصرى، ليطلعنا على أوراق بعض المصريين الذين قضوا فى أحداث الثورة، قال إنهم لقوا حتفهم وهم يجلسون على مقهى فى نفس الشارع عندما أصابتهم قذيفة فحولت أجسادهم إلى أشلاء، بعضها دفن فى إحدى المقابر القريبة والبعض الآخر دفنه المستشفى العمومى بمعرفته الخاصة.
«مجدى فهمى محمد عز الدين»، سمكرى سيارات، رقم الجواز 1044099، من عزبة الشال بمدينة المنصورة محافظة الدقهلية. «أحمد محمد أمين الديب» فنى نجار، تاريخ الميلاد 1969، رقم الجواز 968679، من مركز فارسكور بمحافظة دمياط. «محمد قشلان» الشهير بـ«إش إش» من منطقة الحورانى بدمياط، والأخير لم يتم التوصل لأى أوراق رسمية كان يحتفظ بها معه. ثلاثة مصريين قال عنهم محمد درويش المقاول إنهم استشهدوا أثناء جلوسهم على المقهى فى شارع الزجدة يوم الثلاثاء 15 مارس الماضى بعد أن انفجرت فيهم قذيفة سقطت عليهم فجأة فقطعتهم إرباً وحطمت جزءاً من المقهى لاتزال آثاره باقية حتى اليوم. ورغم أن الحادث تم تسجيله فى المستشفى العام باسم «حادث الزجدة»، فإن درويش لم يستطع استخراج شهادات وفاة لزملائه بسبب عدم وجود موظفين ليبيين أو سجلات تسهل المهمة، وقيل له فى المستشفى إن الأوراق الرسمية لن يتم استخراجها إلا بعد استقرار الأوضاع وانتظام العمل فى الدواوين الحكومية، وهو ما لم يتحقق حتى الآن.
وبالإضافة إلى الثلاثة الذين استشهدوا، كان هناك رابع فقد ذارعه فى نفس الحادث، وقيل إنه نقل إلى تونس للعلاج ورحل إلى مصر تاركاً أوراقه مع زملائه الذين قالوا إنهم لا يعلمون عنه شيئاً، غير أنهم عرضوا جواز سفره المدون فيه اسمه «عزت محمد عبدالفتاح مصطفى»، عامل، تاريخ الميلاد 14/6/1963، منية النصر بمحافظة الدقهلية. انتهى الحديث عن حكايات ضحايا «حادث الزجدة» ليتفرغ الجميع لرواية الحكاية الأهم من وجهة نظرهم، حكاية محمد المصرى «أبوشيماء».
على أحد جدران المقهى علق المصريون صورة بالألوان لرجل يقف مبتسماً وهو يلف حول عنقه شريطاً من طلقات الرصاص، وأمامه مدفع رشاش. تحت الصورة دون تاريخ الاستشهاد 7/7/2011، هى صورة محمد المصرى أبو شيماء الذين قالوا إنه من مدينة المنصورة بمحافظة الدقهلية، وكان يعمل مبيض محارة وسكن وسطهم فى الشارع الذى كان يضم مئات العمال المصريين قبل أن تندلع الثورة الليبية فيقرر محمد دون أى مقدمات الاشتراك فيها وهو الذى لم يستخدم سلاحاً فى حياته، أو حتى يفكر فى كيفية استخدامه.
غاب محمد عن الحى منذ بدأت أحداث الثورة، ولم يعرف زملاؤه عنه شيئاً حتى أتاهم خبر استشهاده فلم يجدوا فى أياديهم شيئاً سوى أن يدعو له بالرحمة، ويدعو لغيره ممن يحاربون فى صفوف الثوار بالنصر والعودة بسلامة الله، قاصدين بذلك زميلهم «حسن سليمان حسن» الذى تركهم هو الآخر لينضم إلى صفوف الثوار بمحض إرادته دون أى إجبار من أحد.
و«حسن» الذى يعمل كهربائى سيارات ويعود بجذوره إلى مركز ملوى بمحافظة المنيا التى ولد فيها قبل 36 سنة لم يكن يعلم أى شىء عن السلاح، ولا الفرق بين مسدس 9 مللى وبين سلاح 23 المحمول على سيارة والذى تدرب عليه عندما قرر أن ينضم للثوار الليبيين. يحكى حسن بنفسه «لما قامت الثورة صعب على اللى بيحصل لأخواتى الليبيين، وحسيت إنهم على حق، وإن القذافى على باطل، وقلت لنفسى مش ممكن بعد ما أكلنا خير ليبيا إننا نتخلى عنها وقت ما تحتاجنا، ما دمنا أكلنا خيرها، يبقى لازم نقدم لها خير قدامه، وهو ده اللى حصل». بعد اندلاع الثورة بـ15 يوماً اختار حسن أن ينضم لكتيبة «محمد الحلبوس» من مصراتة، وعلى جبهة القتال تعلم من الثوار كيف يستخدم السلاح، وظل يقاتل على مدار شهرين متتاليين قبل أن يستشهد «الحلبوس» وينفرط عقد الكتيبة ليعود حسن لمتابعة أحداث الثورة من بعيد ويتمنى لمقاتليها النصر وهو ما تحقق بعد ذلك.
حسن يقول إن هناك مصريين كثيرين قاتلوا فى موقع منطقة الدفنية على حدود مصراتة، كما قاتل عدد آخر فى مواقع أخرى، بعضهم استشهد وبعضهم أصيب، وبعضهم عاد سليما لم يصبه سوء. غير أنهم حتى الآن لم يستطيعوا حصرهم بسبب توقف الأجهزة الحكومية عن العمل، وصعوبة استخراج أوراق رسمية تثبت حقهم فى تعويضات لأسرهم وذويهم.
«المصري اليوم» ترصد عودة المصريين من طرابلس عبر منفذ «رأس جدير» التونسى
على الأطراف الغربية لمدينة طرابلس تجمع عشرات المصريين فى تمام العاشرة صباحاً فى انتظار مغادرة المدينة خلال ساعات معدودة. معظمهم من العمال والتجار الذين يقيمون ويعملون فى ليبيا، منهم من قرر الرحيل إلى مصر فى إجازة خاطفة لزيارة الأهل والأصدقاء، ومنهم من قرر العودة بشكل نهائى، قبل أن تتطور الأحداث فى العاصمة الليبية ويصبح الخروج منها أو الدخول إليها أمراً مستحيلاً. وجميعهم انتهز فرصة تنظيم السفارة المصرية فى طرابلس رحلات مجانية لنقل المصريين من ليبيا إلى مصر عن طريق الحدود التونسية ليقطع الرحلة فى أمان تام تحت رعاية السفارة المصرية.
القنصل محمد وجدى زيد، القائم بأعمال السفير المصرى فى طرابلس، قال إن السفارة المصرية لجأت إلى ترحيل المصريين فى ليبيا عن طريق البر، بعد أن توقفت الرحلات البحرية لأسباب أمنية، غير أنه عبر عن قلقه من ترحيل البر بسبب عدم استقرار الأوضاع الأمنية بشكل كاف ما بين مدينة طرابلس ومعبر رأس جدير على الحدود الليبية التونسية، وهو ما ظهر خلال الساعات القليلة التى اضطر المصريون أن يقضوها جالسين داخل إحدى الحدائق العامة فى مدينة طرابلس، ريثما يتم إبلاغ المجلس الانتقالى الليبى بعبور القافلة وتأمين طريقها، قبل أن يسمح لهم باستقلال الحافلات للتوجه للمعبر البرى، حيث المخيم الموجود على الحدود لاستقبال المصريين تمهيداً لترحيلهم فى طائرات مدنية تابعة لها.
لم يجر التنسيق بشكل كامل، وكادت الرحلة أن تلغى من الأساس قبل أن يقرر القنصل قيامها على مسؤوليته الخاصة، وذلك بأن يستقل هو، ويقود بنفسه سيارة خاصة تحمل لوحة «هيئة سياسية» وترفع العلم المصرى على مقدمتها، لتسبق الحافلتين الكبيرتين اللتين تضمان المصريين المرحلين، بالإضافة إلى سيارة نقل تحمل أمتعتهم من طرابلس حتى رأس جدير، وهكذا بدأت القافلة الصغيرة رحلتها فى تمام الواحدة ظهراً فى خط مستقيم وكأنها مربوطة بحبل غير مرئى يحفظها من التفرق عن بعضها البعض.
وعلى طول الطريق من طرابلس إلى رأس جدير انتشر الثوار بكثافة كبيرة حاملين أسلحتهم المتطورة، ومكونين لجاناً شعبية أخذت تفتش السيارات وتطلع على هويات سائقيها. ورغم الكثافة التى ظهر بها الثوار، إلا أنهم راحوا ينصحون قائدى السيارات بسلوك طرق أخرى حددوها لهم، تبعد بهم عن الطريق الرئيسى الذى اعتادت السيارات أن تقطعه، بعد أن قاموا بإغلاقه، مستخدمين كومات ضخمة من الأتربة سدوا بها الطريق، وحولوا مسارات السيارات لطرق أخرى فرعية لم يفكر أحد فى ارتيادها من قبل، الأمر الذى سبب قلقاً للركاب وجعلهم يضعون أياديهم على قلوبهم خوفاً من مكروه يصيبهم أثناء الرحلة.
سارت القافلة الصغيرة المكونة من سيارة القنصل والحافلتين الكبيرتين وسيارة الأمتعة بسرعة متوسطة وهى تتلمس سبيلها بصعوبة بالغة، وعند كل نقطة تفتيش تتوقف السيارات الأربع قبل أن تعاود سيرها حثيثاً، وهكذا مرت ثلاث ساعات قبل أن تتوقف السيارات نهائياً حوالى الرابعة عصراً عند معبر رأس جدير، الذى بدا مزدحماً للغاية بعشرات السيارات الخاصة بالليبيين.
لم يتوقف المصريون كثيراً عند المعبر، رغم الزحام الشديد الذى شهده المنفذ، بسبب توجه عشرات الليبيين بسياراتهم إلى تونس لقضاء إجازات، أو إنهاء مصالح معينة، إذ تكفل وفد السفارة المصرية بإنهاء إجراءات ما يقرب من مائة مسافر على الجانب الليبى الذى بدا منظماً للغاية، قبل أن يتم تسليمهم للجانب التونسى الذى أنهى بدوره الإجراءات بسرعة بعد أن منح المصريين تأشيرة عبور لا تتجاوز 24 ساعة يقيمون خلالها داخل أحد المخيمات الموجودة على الحدود حتى تصل الطائرة التى ستقلهم إلى مصر.
داخل المخيم انضم المصريون إلى عشرات غيرهم وصلوا قبل عدة ساعات، وجلسوا فى انتظار اكتمال العدد المناسب لإقلاع طائرة فى الحادية عشرة من مساء اليوم التالى من مطار مدينة «جربة» على الحدود التونسية إلى مطار القاهرة بمصر. لم يواجه المصريون القادمون من طرابلس أى صعوبات عند الدخول للمخيم، إذ بعد أن قام المسؤولون بتسجيل أسماء المصريين بالكامل فى سجلات دقيقة، تم وضع أسورة بلاستيكية على معصم كل واحد منهم تحمل اسمه، وتم توزيع وجبات طعام لهم، وطلب منهم أن ينتظروا فى المخيم، تمهيداً لنقلهم داخل أتوبيسات إلى «جربة» ومنها داخل الطائرة إلى القاهرة بعد أكثر من 24 ساعة من وصولهم، لتنتهى بذلك رحلة العودة التى استغرقت أكثر من ثلاثين ساعة ما بين «طرابلس» و«رأس جدير» و«جربة» و«القاهرة».