أجمل ما فى الوثائق «الرسمية» أنها تحمل دائماً فصولاً وحكايات منسية من «ذاكرة» وتاريخ «الأمم» و«الشعوب»، ربما تسقط «عمداً» أو دون قصد من ذاكرة المسؤولين أحياناً، فالحياة بكل تفاصيلها فى أى حقبة تاريخية تكون «أصدق» من خلال «الوثائق» لأنها لا تعرف حسابات «المصالح» ولا تخشى الحكام أو المسؤولين، لا تعرف «الخجل» أو «النفاق»، لا تكذب ولا تتجمل بحثاً عن مطمع أو مقصد.
مكرم سلامة، الباحث فى الوثائق والأرشيفات، «السكندرى» الشغوف بتاريخ «الثغر» ومصر عموماً، من خلال الوثائق، أشبه بـ«قناص» عجوز وصياد ماهر يجيد دائماً «قنص» كل ما هو ثمين ونادر من الوثائق التى تحمل فى «طياتها» تاريخ «الثغر» القديم، خاصة فترة الملكية والسنوات الأولى لبدايات القرن الماضى، التى يراها العهد الذهبى للمدينة التى كانت تحمل روح «الأساطير» و«الملائكة» فى سمائها وأرضها، حسب تعبيره دائماً. عدد كبير من أصول تراخيص مزاولة «المهن» والأنشطة التجارية وافتتاح «المحال التجارية» وحتى الباعة «المتجولون» خلال الحقبة التاريخية من 1899 حتى 1930 عثر عليها «مكرم» لدى بائع ورق قديم فى القاهرة، ضمن مجموعة أخرى ثمينة من الوثائق «النادرة» اشتراها بين طن «ورق دشت» أصر البائع على بيعه مع الأوراق والوثائق بمبلغ 250 جنيهاً، حسب قول «مكرم».
عن قصة تراخيص المحال المتنوعة وكذلك «المهن»، التى تحمل فصلا مهما من تاريخ «الثغر» ومصر عموما، قال مكرم سلامة: «اشتريت أوراقا مهمة منذ نحو 5 سنوات من أحد تجار الورق القديم بالقاهرة، وهو الورق الذى ترفض شركات الورق شراءه، بسبب سوء حالته، وعدم وجود مادة «سيرليزوم» به، وهى المادة الفعالة لعجن وإعادة تصنيع الورق».
وأضاف «مكرم»: «عندما عرف التاجر برغبتى فى شراء بعض الأوراق فقط أصر على شرائى كمية الورق الموجودة ضمنها الوثائق، وبلغت طن ورق اشتريته بمبلغ 250 جنيها، وعقب عودتى بدأت فحص ما به من أوراق ومستندات ووثائق، وهو ما عكفت عليه مدة طويلة، وهالنى ما وجدته حيث عثرت من ضمن الأوراق على مجموعة كاملة تخص الدائرة السنية، وهى دائرة الأملاك التابعة لأبناء الخديو إسماعيل والعائلة الخديوية فى مصر، خلال الفترة من 1860 حتى عام 1880، بالإضافة إلى أوراق التحقيقات الخاصة بحرق وضرب الإسكندرية عام 1882 بمدافع الاحتلال الإنجليزى، والاتهامات التى وجهت للزعيم أحمد عرابى والثورة العرابية، بحرق ونهب الإسكندرية، وأثبتت لجنة التحقيقات فى النهاية براءته».
وتابع «سلامة»: «المجموعة قمت بإهدائها بالكامل لمكتبة الإسكندرية وتبلغ نحو 5 آلاف وثيقة تحمل تاريخ مصر فى غضون شهر يوليو الماضى، حفاظاً عليها من الدمار أو الفقد، وحتى تعرف الأجيال القادمة كفاح وتاريخ الشعب المصرى».
وحول تراخيص مزاولة «المهن» والمحال التجارية، التى عثر عليها ضمن «طن الورق» القديم، قال مكرم سلامة: «هى عبارة عن تراخيص للمحال والمهن التى كانت موجودة خلال السنوات الأولى لبدايات القرن العشرين مثل رخصة المصور الفوتوغرافى «المتجول»، وهى من المهن التى كانت شائعة فى «الثغر» ومصر عموما، ومعروف أن بداية دخولها مصر كانت على يد المصورين الأجانب، وهو ما تكشفه رخصة مزاولة مهنة «المصور»، التى عثرت عليها ويرجع تاريخها إلى 25 أبريل 1899، باسم «مارج أنجيادارماتيه» ومبين بها صناعته «فوتوغرافية» من رعايا الحكومة، والمقيم فى الإسكندرية، لأجل:» التجول بصندوق فوتوغرافية بشوارع الثغر، ماعدا شوارع الترام والمنشية وشارع شريف باشا، وهى الشوارع التى كانت وقتها تعتبر بمثابة وجه المدينة.
وتابع: «وجدت كذلك تصريحا آخر باسم على حسن الحلو وصناعته (صاحب تياترو) من رعايا الحكومة والمقيم فى الإسكندرية لأجل تشغيل تياترو بمحطة باكوس بالرمل 15 يوما من تاريخ الترخيص فى 25 أبريل 1899، ومعروف أن عائلة «الحلو» الشهيرة من أوائل العائلات التى أدخلت فن «السيرك» إلى مصر، وكلمة «تياترو» كانت شائعة الاستخدام وقتها، وتقدم استعراضات راقصة وأكروبات، بالإضافة إلى العروض الموسيقية والغنائية.
واستطرد: «وجدت ترخيصا آخر باسم قطران عجمى، وصناعته صاحب قهوة من رعايا الحكومة المحلية بالثغر قسم محرم بك، لأجل إدارة مغنى فى قهوته الكائنة بشارع المحمودية بحى محرم بك يوم الأحد، وتحمل الرخصة تاريخ 8 أبريل 1899، وآخر باسم حجوج أنطون تنيس وصناعته من أرباب الأملاك ومقيم بالمحافظة بقسم العطارين، لأجل: «فتح وإدارة تياترو الكازار مدة فصل الصيف، ويبدأ من 15 أبريل 1899 إلى شهر أكتوبر 1899 بمعرفته، وآخر باسم سليم عطا الله، رئيس جمعية محبى التمثيل، وأول من قدم فن المسرح فى مصر والمقيم فى الإسكندرية وقتها، بدائرة قسم العطارين، لأجل: «تقديم رواية روميو وجوليت بمسرح عدن من الساعة 9 أفرنكى مساء لغاية الساعة 2 أفرنكى بعد منتصف الليل، تحريرا فى 23 أبريل 1899، المفاجأة التى اكتشفتها فيما بعد أن سليم عطا الله وشقيقه أمين هما أول من اكتشف الموسيقار سيد درويش فى «الثغر»، وألحقاه بفرقتهما المسرحية عام 1908، قبل انتقالهما للعمل بالقاهرة واكتشافهما الفنان الراحل أيضا نجيب الريحانى.
وأضاف «مكرم»: «هناك أيضاً رخصة باسم فومبان قطمان من رعايا بريطانيا وصناعته بيع العقاقير الطبية بدائرة قسم المنشية، والرخصة كما مبين بها لأجل: «المرور بالمدينة لعرض عقاقير طبية مرتين فى اليوم، مدة شهر أفرنجى وله أن يمر فى شارع شريف باشا، والطرق التى بها الترام، ثم الوقوف بجهة قهوة البراديزو، وتحمل الرخصة تاريخ 15 أبريل 1899.
وأكد «مكرم» أن رخص مزاولة «المهن والحرف» وقتها توضح النظام الشديد فى الجهاز الإدارى فى «الثغر»، وخضوع جميع الجنسيات والديانات لسيادة الدولة، منها التراخيص الصادرة من وزارة الداخلية، إدارة عموم الأمن العام، موضح بها أنها رخصة معطاة طبقا للمادة 15 (ثالثة) من القانون نمرة 1 سنة 1904 المعدل بالقانون نمرة 24 سنة 1922 لتشغيل الموسيقى أو الرقص أو الغناء فى محل عمومى، وإحداها تحمل نمرة مسلسلة رقم 176 محافظة ومديرية الإسكندرية، باسم «غيطانو ميللى» من رعايا «الحكومة الإيطالية» وموقع محله بشارع الكورنيش بكليوباترا، وسبب التصريح الغناء بالفونوغراف، وجاء بالتصريح تحديد الوقت المصرح له بتشغيل «الفونوغراف» والموسيقى فى فصل الصيف من 15 أبريل إلى 14 أكتوبر من الساعة 7 مساء إلى 11 مساء، خلال فصل الشتاء من 15 أكتوبر إلى 14 أبريل من الساعة 6 مساء إلى الساعة 10 مساء، بالإضافة إلى سريان «الرخصة» لمدة عام يبدأ من 11 سبتمبر 1930.
وتوضح إحدى الرخص، بحسب «مكرم»، النسيج الاجتماعى «الكوزموبوليتانى» للمدينة وقتها، واندماج السيدات الأجانب فى جميع الأعمال والحرف بالثغر، فإحدى الرخص كانت لسيدة يونانية بغرض ممارسة حرفة تجهيز عربة ركوب حنطور «أبانوس» باسم قومبانية بانيوس وصناعتها «معلمة» من رعايا دولة اليونان، ومقيمة فى منطقة بوالينو ملك محمد عماشة فى محرم بك، والترخيص لأجل تشغيل عربة كبيرة أبانوس بتاريخ 20 يونيو 1898.
تكشف تراخيص المحال التجارية، التى يعود معظمها إلى عام 1912 إلى، «انصهار» الأجانب داخل المجتمع «السكندرى» بصورة عفوية فرضتها أقامتهم وتوطنهم بالمدينة، وعدم شعورهم بأى نوع من الاغتراب بين أهلها، بدليل عملهم فى غالبية المهن، التى كان يعمل بها «السكندريون» وأولاد البلد الأصليون وقتها.
وأوضح: «هذا ما يكشفه جانب آخر من التراخيص، وتسمى إعلانات وصول إخطار عن محل عمومى لقسم الضبط بوزارة الداخلية المعروفة وقتها باسم «نظارة الداخلية»، وفيها كان أصحاب المحال التجارية وكل الأنشطة يتقدمون بطلب تراخيص مزاولة النشاط لوزارة الداخلية ويتعهدون فيه بعدم السماح بإجراء ألعاب «القمار» فى المحل من أى نوع، قبل أن تقوم «الداخلية» بمنحهم التراخيص، وتحتفظ لديها فى سجلاتها الخاصة بصورة طبق الأصل من «الترخيص» الممنوح لصاحب المحل التجارى أو النشاط وقتها.
وكشف «مكرم» عن عدد من هذه التراخيص، التى تحمل روح وعطر «الثغر» وقتها، فأحدها مؤرخ بتاريخ 18 مارس 1912 باسم شخص يدعى جورجى خريستو سكاركتدا، التابع للحكومة المحلية والمولود فى «تركيا» والمقيم فى الإسكندرية، وتتضح من اسمه جنسيته غير المصرية، وصناعته صاحب قهوة وبار، وأنه حضر إلى المحافظة، وقدم إخطارا أبدى فيه رغبته فى إدارة «قهوة وبار» بملك فرج حسن بشياخة حسن صابر الكائن فى شارع «ابن خلدون» قسم العطارين.
ولفت «مكرم» إلى رخصة أخرى لمواطن «تركى» الجنسية أيضا يدعى «أسطاسى كوسطندى جير جيفلى» يطلب فيها منحه ترخيص «لوكاندة أكل» أو مطعم طعام بملك شخص يدعى «ليوانيدس» بشياخة السيد عطية بشارع البورصة القديمة بقسم المنشية، وترخيص آخر باسم مواطنة إيطالية تدعى «أنا يافونية»، بتاريخ 25 مارس 1912، ترغب فى التصريح لفتح محل «مشروبات روحية» بشارع ابن خلدون بمنطقة العطارين، وآخر برقم 298 باسم شخص «يونانى» الجنسية يدعى «ديموستين يوليتس» يطلب فيه منحه ترخيص فتح «مقهى» يملكه شخص آخر يدعى «أرتين نازا رجلزيا» فى شارع محطة الإبراهيمية، بالإضافة لترخيص آخر لفتح «مقهى» بشارع الأمير بمنطقة اللبان يعود تاريخه إلى 18 مارس 1912 باسم سيدة تدعى حليمة بنت محمد على منسى، صناعتها قهوجية ترغب فى إدارة قهوة بملك جرجس مرقص بشياخة سالم عبدالرحمن بقسم اللبان، وترخيص آخر باسم على محمد على الراكشى يرغب فى ترخيص محل «فطاطرى وشربتلى» بتاريخ 31 مارس 1912 بشارع النيل بكرموز.
أضاف «مكرم»: «بعد أن لاحظت أن غالبية التراخيص للمحال والمهن كانت لأجانب بدأت أرجع للقراءات، التى تناولت تاريخ المدينة فى تلك الفترة، ومنها ما ذكره كتاب (الشخصية السكندرية فى السينما المصرية)، للناقد السينمائى سامى حلمى، الصادر عن مركز دراسات الإسكندرية وحضارة البحر المتوسط، التابع لمكتبة الإسكندرية، وفيه دراسة غير منشورة للدكتور محمد الكردى، عن التنوع فى جنسيات الجاليات الأجنبية بالثغر خلال الفترة من أعوام 1882 حتى 1917، حيث بلغ فيها عدد اليونانيين نحو 56 ألف نسمة، والإيطاليين 50 ألف نسمة، والإنجليز نحو 24 ألف نسمة، وفرنسيين نحو 21 ألف نسمة، إلى جانب جنسيات أخرى متعددة من السوريون واللبنانيين، والأرمن، والأتراك، ومن بعض دول شمال أفريقيا، وهو عدد كبير بالنسبة لتعداد المدينة مقارنة بعدد سكانها الأصليين وقتها.
وتابع «مكرم»: «من بين تراخيص مزاولة المهن والحرف أيضا التى عثرت عليها ووجدتها، تصاريح فتح المحال التجارية وبعضها يخص عدة محافظات، مثل تصريح فتح محل عمومى و«قتى»، وهو يخص الباعة المتجولين والمتواجدين بجوار موالد أولياء الله الصالحين والأضرحة- حسب قوله -ويحمل «نمرة 6» معطى إلى شخص يدعى «ريحان السودانى» التابع للحكومة المحلية والمولود فى السودان، مقيم بالزقازيق، صناعته «بوظجى» لفتح محل بيع «بوظة» فى «المولد النبوى» مؤقتاً لغاية انتهاء المولد ومؤرخ بتاريخ 8 سبتمبر 1894، وهو شراب كان منتشرا فى مصر خلال تلك الفترة، ويتم صناعته يدويا من «عفن الخبز»، وكانت له محال مخصصة لشرابه.
واستطرد: «هناك تصريح آخر يحمل (نمرة 520) لفتح محل عمومى وقتى أيضا، معطى إلى شخص يدعى مصطفى محمد الأفغانى تابع لولاية الأفغان، المولود فى كابول، مقيم فى قسم المنتزه بالزقازيق، صناعته «قراجوزاتى» لفتح «قراجوز» فى قسم المنتزه بالزقازيق مؤقتا لمدة عشرة أيام، ويحمل تاريخ أبريل 1904، وآخر لـ«حاوى أفرنكى» يدعى دولت أبكاش تابع لدولة إيران، لمدة عشرة أيام أيضا لمزاولة مهنته، محدد له به نهايته ومكان مزاولة عمله فى قهوة محمد النشار بالزقازيق، بتاريخ 12 مايو 1910، بالإضافة لتصريح آخر يحمل «نمرة 53» لفتح محل عمومى وقتى أيضا لشخص يدعى الخواجة ألفريد كاتاسنيو، تابع لدولة إيطاليا، وصناعته صاحب «سيما فوتوغراف» ويقصد بها دار عرض سينمائى، لفتح محل «سيما فوتوغراف»، مؤقتا مدة مولد سيدى البندارى بالزقازيق فى 18 يوليو 1909.