حالة فريدة من الارتقاء الروحى والتأمل، تعيشها مع لوحاته فتدعوك إلى التغيير، الاكتشاف الجديد، والنظرة المستقبلية، ليس فقط من خلال ما يأخذنا إليه فنه التجريدى من فراغات هائلة وآفاق بريحة، لكن أيضا لما يتمتع به مبدع هذه اللوحات وزير الثقافة الأسبق، الفنان فاروق حسنى، المعروف بعشقه للفن بجميع ألوانه، من رؤية فلسفية وثقافة عميقة، وخبرة حياتية واسعة وترحال طويل ثرى.
يطل علينا من جديد الفنان فاروق حسنى عبر معرضه السنوى الذى يفتتحه فى التاسع عشر من هذا الشهر بجاليرى (أوبنتو) بالزمالك ليقدم لنا إيقاعات بصرية جديدة بلغة فنية مختلفة، فكما تعودنا منه يفاجئنا فى كل معرض جديد بمسطحات لوحات تشغى بتكوينات لونية وشكلية لم نشاهدها من قبل فى أعماله السابقة، تحمل مزيداً من الشحنات الوجدانية التى تعكس ما يدور فى أعماقه من أفكار ورؤى ومشاعر مغايرة، تدعونا إلى التفاعل والتحاور مع ما حولنا بإيجابية وحماس بعد أن نكون قد قمنا بترويض أنفسنا، وإعادة «شحن» طاقاتنا، لنستطيع استقبال كل هذا الثراء الفنى والفكرى المتجدد، الذى يمكن تفسيره، بقول الفنان: «لا أهتم بإقامة معرض جديد إلا إذا كانت لدى أعمال ذات أحاسيس، أفكار ولغة فنية جديدة، ولكل فترة إيقاعاتها البصرية الخاصة بها، والنابعة من ذلك كله».
وما بين جرأة لمسات فرشاته، وصراحة مساحاته اللونية، وعفوية خطوطه فى لوحاته بمعرضه تنتقل إلينا الكثير من انفعالاته من لحظات يقتنصها من اللاوعى إلى الحضور واليقظة، فالمتلقى هنا أمام فن بصرى قد يفتش فيه عن مدلولات، وجوه، أو أشكال معتادة متعارف عليها سواء كان مثقفا أو غير مثقف، طفل أو كبير، فيخفق ويفشل فى الوصول إلى شىء من ذلك، لأنه ببساطة بصدد فن قوامه الوجدان المستند إلى خلاصة تجربة الفنان وثقافته ومعرفته وترحاله الطويل، لا الفهم أو التفسير المباشر للكون أو الحياة.
ذلك نفسه هو نفسه ما يمنح المتلقى قدرا أعمق من التأمل والصوفية، والترقى بالروح، حتى لو لم يعثرعلى فهم صريح للعمل الفنى، ذلك أن التأمل وحده يقوده إلى التجديد والتغيير، وهذا هو الفن التجريدى الذى لخصه فاروق حسنى مثلما يلخص الكون فى لوحاته حين قال لى: «الفن التجريدى على وجه الخصوص هو الخلاص من الشكل وصولا إلى نشوة الروح، فالعمل الفنى يجعل الإنسان ينتشى ويجدد طاقاته وفكره، وأنا لست فنانا يذهب إلى قضية محددة أو رسالة بعينها ليقدمها فى لوحاته، نعم أستطيع ذلك، وفى مراحل فنية سابقة من حياتى خاصة فى شبابى تناولت قضايا بأسلوب أكاديمى، كما رسمت الطبيعة البحر والمراكب وغيرها مما يطلق عليه الفن الملتزم بقضية، إلا أنه بعد ذلك دخلت على ّمنابع فكرية ووجدانية كثيرة تأثرت بها فنيا، وكأى فنان يكافح لكى يصل إلى أسلوبه أو سكته التى يحقق ذاته من خلالها، فإنه يختارها ويسير فيها، وهكذا فعلت مع التجريدية وهكذا فعلت بى التجريدية!».
ويضيف مجيباً على سؤالى له بأن الكثيرين قد يجدون صعوبة فى فهم الفن التجريدى قائلا «لأن التجريد يتحس أكثر منه يُفهم، وعندما يأخذ المتلقى اللوحة التجريدية إلى بيته، فإنه يكتشف كل يوم فيها المزيد نقطة، خط، تاتش، والتجريد متعب جدا لمبدعه، لأنه يمثل البحث فى المطلقات لكى تكتشفها، فالتجريدية هى انتقال الفن من مجال محاكاة الطبيعة وتصوير العالم المرئى إلى التعامل مع الأفكار والأحاسيس، أو ما يطلق عليه (كاندنسكى) بالضرورة الداخلية، ليجعل اللامرئى مرئياً».
وفى لوحات معرضه الجديد أيضا تجد تأثر فاروق حسنى الواضح بالإسكندرية ويعلق قائلا: «نعم تأثر فنى بالإسكندرية، التى ولدت فيها فكانت هى كل المشاعر والأحاسيس، وكنت محظوظا أكثر أن بيتى يطل على البحر، ذلك البحر غير المستقر الذى تجده يوما غاضبا ويوما آخر هادئا ويوما تجد النورس قد رسمت سيمفونية بصرية، كنت معاصرا لهذا التنوع الحى الذى يقوم به البحر والمناخ خاصة النوات التى تقلب كيان الجو وتغير المدينة ثم تغتسل بذلك كله وتصبح فى النهاية متميزة ببحر وسماء مكسيين بالزرقة، هذا التقلب يفعل الكثير بالفنان». تأثر «حسنى» أيضا بالحضارة المصرية القديمة، ويقول: «هى التحدى الأعظم فالإنسان عندما يجد نفسه أمام هذه الحضارة يكتشف كم أنه قزم، ما كل هذه العبقرية والطاقة والخيال والصوفية التى جعلت المصريين يصلون إلى هذه الحدود من الإبداع!».
وبرغم الفرص الواسعة أمامه ليعرض فى أشهر القاعات الفنية العالمية إلا أنه يرى أن لمعارضه فى مصر طعما خاصا، إذ ارتبط بهذه الأرض ارتباطاً شديداً. وتابع: «مهما كان النجاح فى الخارج رائعا فإنه لا يساوى أى نجاح على أرض الوطن».
نادية عبدالحليم