كعادة كل الأطفال، ارتدت «مادونا»، بنت العاشرة، ملابس العيد مبكراً، وكأنها تنتظر أي شيء يدخل عليها الفرحة رغم حداثة سنها، كانت تصر على القيام بواجب الضيافة على أكمل وجه، وحتى القهوة كانت تصر أن تقوم بعملها بنفسها.
في شقة متواضعة في المحلة الكبرى، جلس «هاني عزيز» بين أسرته الصغيرة المكونة من «مادونا» و«مارولين»، كل منهم يستعد للعيد بطريقته الخاصة، الصغيرة «مادونا» أصرت على ارتداء ملابس العيد مبكراً، أما «مارولين» التي تدرس في المرحلة الإعدادية ففضلت تزيين المنزل، بينما كان الأب، الذي توفيت زوجته قبل سنوات، يقوم بتحضير الطعام الذي ستتناوله الأسرة بعد عودتها من القداس، لتنهي به صيامها.
يقول «هاني عزيز»: «الصيام عندنا مختلف بعض الشيء، حيث يُسمح لنا بأكل وشرب أي شيء ليس فيه روح، ويمتد الصيام 45 يوماً تنتهي بانتهاء قداس عيد الميلاد، في ليلة 7 يناير، بعدها تتجمع الأسر بعد عودتها من الكنيسة، وتأكل أي شيء فيه روح مثل اللحوم لتنهي صيامها».
العيد عند الكبار قد يكون طقوساً دينية بحتة، بالإضافة إلى فرحة تدخل القلب نابعة من المناسبة الدينية نفسها، أما الصغار فالأمر يختلف بعض الشيء، تقول «مارولين عزيز»: «العيد مناسبة جيدة لرؤية أصدقائي والخروج معهم للتنزه، وبعد انتهاء القداس تذهب الأسر إلى كبير العائلة ليجلسوا ويتحدثوا سوياً، ويتناولوا طعام الإفطار، بينما يلعب أبناء العائلة مع بعضهم البعض»، أما «مادونا عزيز» فترى كشقيقتها في العيد مناسبة جيدة للخروج والتنزه مع الأصدقاء، إلا أنها ترى أيضاً أن من أهم ما يدخل عليها السعادة في هذا اليوم هو ملابسها الجديدة، حتى أنها ترى أن «العيدية» ليست أمراً مهماً بالنسبة لها في هذا اليوم، بقدر أهمية ملابسها الجديدة.
العيد هذا العام، يختلف كثيراً عن ما قبله، فأحداث كنيسة القديسين بالإسكندرية، جعلت منه مناسبة يتلقى فيها الجميع التعازي والتهاني في آن واحد، ورغم أن الحزن واحد، إلا أن الحداد وردود الأفعال كانت مختلفة، يقول «هاني عزيز»: «اشتريت لبس العيد لبناتي، لأن العادة أن لبس العيد يتم شراؤه قبل العيد بأسابيع، أي قبل وقوع حادث الإسكندرية، لكن هذا لا يعني الفرح، هناك أشياء كثيرة كفيلة بالتعبير عن الحزن، منها على سبيل المثال إطلاقي للحيتي».
أما «مادونا» التي قالت إنها ذهبت إلى الإسكندرية مع والدها بعد وقوع الحادث للاطمئنان على أقربائهما هناك، فقالت: «ما حدث كان صدمة، نحن كلنا مصريون، بالطبع أشعر بالحزن والخوف، لذلك سأذهب إلى الكنيسة لأراها فقط من الخارج، ولن أدخل خوفاً من أي تفجير قد يحدث»، أما «مارولين» فكانت أكثر شجاعة من أختها رغم الدموع التي كانت تملأ عيونها، تقول: «أعرف أن ما حدث في الإسكندرية لن يكون نهاية التفجيرات، وأعرف أن تفجيرات أخرى ستتم في أماكن مختلفة، لكني سأذهب إلى الكنيسة، لأنني أشعر أن التفجيرات ستكون بعيداً عنها».
عقارب الساعة تقترب من السادسة والنصف، الجميع يستعد الآن لمغادرة المنزل والاتجاه إلى كنيسة «الملاك ميخائيل» التي أعلن عنها موقع «المجاهدين» ككنيسة مستهدفة، في نصف ساعة أو يزيد قليلا كان الجميع مستعدا للخروج.
دقائق قليلة وكنا أمام الكنيسة «المستهدفة»، الحراسة الأمنية أمامها كانت مشددة مثلها مثل بقية كنائس المحلة، كل الشوارع المؤدية إلى الكنيسة تم إغلاقها بحواجز، تمنع مرور السيارات والمشاة، وعلى الحواجز عدة أوراق مكتوب عليها: «رجاء إبراز البطاقة الشخصية إذا طلب منك ذلك»، على الحواجز وقفت قوات أمن في زي عسكري ومدني، بالإضافة إلى عدد من شباب الكنيسة يعلقون على صدورهم ورقة تشير إلى أنهم من «لجنة النظام».
دخل كل أفراد الأسرة، إلا أن أحد أعضاء لجنة النظام اعترض على دخولي، ليتجمع الأمن من حولي، في محاولة لمنعي. على كل حال تدخل «هاني عزيز» لدى كلا الجانبين (الأمن ولجنة النظام) كان كفيلاً بالسماح لي بالدخول.
داخل الكنيسة، وقفت «مادونا» و«مارولين» في استقبال صديقاتهما، يبدو أن «مادونا» نسيت مخاوفها فقررت البقاء في الكنيسة حتى انتهاء القداس، حالة المرح والبهجة التي عاشتها مع صديقاتها كانت كفيلة بذلك، بينما قرر الأب المشاركة في القداس، والطقوس الدينية احتفالاً بعيد ميلاد جديد.
خمس ساعات تقريباً قضتها هذه الأسرة الصغيرة بين أقرانها في الكنيسة، «مادونا» و«مارولين» في عالمهما الطفولي الخاص مع صديقاتهما، و«هاني عزيز» يستمع إلى ترانيم دينية ملحنة، تتبعها عظة دينية يلقيها القمص «دانيال» عن «السلام والمحبة»، يليها قداس يستمر حتى الثانية عشرة والنصف، بعد منتصف الليل.
تتجمع الأسرة الصغيرة مثلها مثل بقية الأسر، تحاول الخروج لإكمال بقية طقوس الاحتفال في بيوتها، فإذا بلجنة النظام تقسم رواد الكنيسة إلى مجموعات، وتخرج كل مجموعة فرداً فرداً، وتمنع التجمع أمام الكنيسة، خشية حدوث أي مكروه، يخرج «هاني» وطفلتاه، ويتجهون إلى منزلهم الصغير بينما البهجة تعلو وجه «مادونا» و«مارولين».
تصل الأسرة الصغيرة إلى المنزل، لإكمال بقية الطقوس، يدخل الأب إلى المطبخ ليعد وجبة «الإفطار»، تساعده في ذلك «مادونا»، بينما بدأت «مارولين» في وضع أطباق الطعام على الطاولة، التي يجلس الجميع عليها، يتناولون اللحوم ليكسروا بها صياماً استمر 45 يوما، يضحكون من القلب لمرور اليوم بسلام، وربما بسبب طبق الكفتة الذي أعده «هاني عزيز» بطريقة «مبتكرة» وأصر أن يتذوقه الجميع قبل أي طعام آخر.