في السابع من نوفمبر عام 1987، استمع التونسيون لصوت زين العابدين بن علي، رئيس الوزراء آنذاك، معلناً توليه رئاسة الجمهورية خلفا للرئيس الحبيب بورقيبة الذي اعتبر بن علي أنه «أصبح عاجزاً تماماً عن الاضطلاع بمهام رئاسة الجمهورية»، واليوم، بعد 23 عاماً، تتضارب الأنباء حول مكان «بن علي» الذي فر هارباً من البلاد، فيما أعلن رئيس وزرائه محمد الغنوشي توليه رئاسة الجمهورية مؤقتاً بسبب «تعذر قيام رئيس الجمهورية بمهامه».
وما بين المشهدين جرت في تونس الخضراء مياه كثيرة خلال عقدين حكم «بن علي» خلالهما البلاد بـ«الحديد والنار» رغم انفراجة نسبية لم تستمر طويلاً في بداية حكمه، حيث فتح لأول مرة قصر قرطاج أمام الأحزاب والمثقفين من غير المُـنتمين للحزب الدستوري الحاكم منذ استقلال البلاد عن فرنسا في مارس 1956.
ولد زين العابدين بن علي في مدينة حمام سوسة في 3 سبتمبر 1936، وعندما كان طالبا في ثانوية سوسة انضم إلى صفوف المقاومة الوطنية ضد الحكم الفرنسي، مما أدى إلى طرده من المدرسة ودخوله السجن، ودرس بعد ذلك في مدرسة المدفعية في شالون سور مارن بفرنسا، وأرسله حماه الجنرال كافي بدورة إلى المدرسة العسكرية العليا للاستخبارات والأمن في بلتيمور بالولايات المتحدة، ومدرسة المدفعية الميدانية في تكساس، ليستلم بعد انتهائها الأمن العسكري التونسي حيث تولى رئاسته 10 سنوات، ثم خدم لفترة قصيرة كملحق عسكري في المغرب واسبانيا، قبل أن يعين مديراً عاما للأمن الوطني في 1977.
عين «بن علي» كسفير في بولندا لمدة أربع سنوات، ثم عين بعدها كوزير دولة ثم وزيراً مفوضاً للشؤون الداخلية، قبل أن يعين وزيراً للداخلية في 28 أبريل 1986، ثم رئيسا للوزراء في حكومة الرئيس الحبيب بورقيبة في اكتوبر 1987، قبل انقلابه على الرئيس الراحل بشهر واحد.
عندما تولى «بن علي» مهامه كانت تونس تعاني من أزمة اقتصادية خانقة كادت تعصف بالبلاد، ويعتبر من الرؤساء المنفتحين على الغرب، فقد غير من تونس كثيراً وجعلها من أكثر الدول العربية انفتاحاً على أوروبا، وقد منع الحجاب الذي وصفه بالزى الطائفي، واتهمه خصومه السياسيون بشن حرب على الإسلام السياسى ورموزه، ففي أجواء حرب الخليج الثانية، اندلعت المواجهة بين السلطة وحركة النهضة، فكان ذلك إيذانا بنهاية سريعة لانفتاح نسبي وبداية تغيير جوهري لأسلوب تعامـل النظام مع المعارضة والمجتمع المدني، حيث بدا جليا أن زين العابدين بن علي لم يكن يرغب بتداول السلطة، رغم ميله في البداية إلى إشراك أطراف عديدة في اللعبة السياسية، بما في ذلك الإسلاميون.
ووصفت جماعات حقوق الإنسان الدولية النظام الذي ترأسه بن علي بالاستبدادي وغير الديمقراطي، وانتقدت منظمات مثل «العفو الدولية» و«فريدوم هاوس» المسؤولين التونسيين واتهمتهم بعدم مراعاة المعايير الدولية للحقوق السياسية، والتدخل في عمل المنظمات المحلية لحقوق الإنسان.
أقام الرئيس التونسي السابق أول انتخابات تعددية سنة 1999 بعد ما يربو على 12 سنة من استلامه للحكم، وقد وصفها البعض بانها انتخابات تعددية مخلصة للأحادية، فقد كانت نتائجها محسومة سلفاً لصالحه، وأجرى تعديلاً دستورياً على الفصلين 39 و40 من الدستور لإزالة الحد الأقصى لمدة تولي الرئيس مهام منصبه حتى يتمكن من الترشح لانتخابات 2009، رغم إعلانه في بيان 7 نوفمبر 1987 أنه «لا مجـال فـي عصرنا لرئاسة مدى الحياة».
منح «بن علي» تراخيص عمل لعدة أحزاب غير فاعلة ونشاطها السياسي ضئيل كحزب الخضر، واتحاد الديموقراطيين الاشتراكيين، وقرر مواصلة حظر حركة النهضة الإسلامية، وحزب العمال الشيوعي التونسي، لنظرا لشعبيتهما العالية.
ومثلت قضية النفوذ المالي والسياسي لأقارب الرئيس وزوجته ليلى الطرابلسي، أبرز ملمح للفساد في عهد بن علي، حيث يتهم الكثير من التونسيين عائلة الطرابلسي بنهب أموال الشعب والسيطرة على ثرواته.
وبرحيل «بن علي» عن السلطة في 14 يناير 2011، تدخل تونس مرحلة جديدة بعد نجاح ثورة الشعب التونسي في الإطاحة بالرجل الذي طالما وصفه معارضوه بـ«الطاغية» و«الديكتاتور»، في ختام شهر من الاحتجاجات الاجتماعية التي اندلعت شرارتها عقب إحراق الشاب محمد البوعزيزي نفسه اعتراضاً على منعه من بيع الخضروات بسوق سيدي بوزيد، في واقعة رمزية مثلت بداية النهاية للنظام التونسي السابق.
ورغم الجدل الكبير حول مدى دستورية إعلان تولي رئيس الوزراء مهام الرئيس، وطبيعة الحكم في المرحلة المقبلة، يتذوق 10 ملايين تونسي هذه الليلة حلاوة النصر ويرددون أبيات شاعرهم أبو القاسم الشابي: «إذا الشعب يوما أراد الحياة ~ فلا بد أن يستجيب القدر.. ولا بد لليل أن ينجلي ~ ولابد للقيد أن ينكسر».