ساعات وتغلق صناديق التصويت على استفتاء انفصال جنوب السودان، المؤشرات تؤكد أن الانفصال آت لا محالة، والحكومة الجنوبية تستعد مع مواطنيها للاحتفال بهذا اليوم، لكن التحديات التى يواجهها الجنوبيون تجعل نجاح هذا الانفصال على المحك. من يراقب المشهد عن كثب يجد أن الجنوب يفتقر إلى كل شىء، لا طرق هنا تربط المدن ببعضها، إذ تسير فى ممرات وعرة تمتد لمئات الكيلومترات، لا شرطة لتحمى أو سيارات إسعاف لنقل المصابين، ولا حتى نجدة للسيارات التى يصيبها العطب، ففى حالات الطوارئ ما عليك إلا البقاء داخل السيارة، إذ إن السير بين غابات السافانا الاستوائية أمر شديد الخطورة.
الماء تحمله سيارات هى فى الأصل معونات من الحكومة الصينية، لاتزال تحمل لوحات كتبت بلغة صانعيها، وشبكات المحمول هنا ضعيفة، أغلب المسؤولين الحكوميين يحملون خطى هاتف محمول أو ثلاثة بسبب ضعف شبكات الهواتف، ورغم الاهتمام الكبير الذى يلقاه الإقليم من شركات الهواتف المحمولة، التى تعتبرها سوقا جديدة، تم منح التراخيص لشركات صغيرة بقدرات محدودة، حتى إن إحدى هذه الشركات تستخدم مفتاح الاتصال الخاص بأوغندا، لذا فإن التواصل مع أصحاب هذه الهواتف من خارج الجنوب أمر شبه مستحيل.
الأمن هنا مشكلة خطيرة، حيث يتم فرض حظر للتجوال من الحادية عشرة مساء، والمشكلة لا تكون فى اللصوص فقط، لكن أيضاً فى رجال الأمن المسلحين السكارى، الذين يأخذون الرشاوى عنوة وإلا قاموا باعتقالك، الكل هنا يتناقل سرا واقعة الاعتداء على السفير الهولندى الذى قام أحد أفراد الأمن بتفتيش سيارته وصفعه بمؤخرة سلاح فى فكه، لذا تجد تنبيهات متكررة دائما على الجاليات الأجنبية والمراسلين الصحفيين بعدم الخروج ليلا، خاصة أنه لا توجد أعمدة إنارة فى عاصمة الجنوب بأسرها، حيث تنقطع الكهرباء عن المدينة، والمدن المجاورة من السادسة مساء، علاوة على الانقطاع المتكرر طول ساعات اليوم، أما الفنادق والمستشفيات فتعتمد على مولدات خاصة. أما عن الرعاية الصحية فيكفى الرجوع إلى التقرير الأخير لمنظمة اليونيسيف الذى يضع جنوب السودان ضمن المناطق العشر الأسوأ فى العالم من ناحية الرعاية الصحية، وتحتل المرتبة الأولى فى تصنيف المناطق الأعلى فى نسبة الوفيات المصاحبة للولادة، التى بلغت فى ولاية غرب الاستوائية 2327 حالة وفاة بين كل 100 ألف ولادة، علاوة على انعدام الخدمات وغياب المعلومات عن معدل الإصابة بالإيدز خاصة وسط الأطفال.
زيارة مستشفى جوبا التعليمى أصبحت أمرا حتميا الآن، فهى المؤشر الأول والوحيد على حالة الرعاية الطبية فى الجنوب، يرفض مدير المستشفى أن نقوم بجولتنا قبل أن يراجع بعض التجهيزات بنفسه، بعد نصف ساعة يأذن لنا بتفقد أقسام المستشفى، إنه المرض فى أبهى صوره، تنظر يمينا ويسارا فلا تجد سوى مرضى يتمايلون ألما، فى الطرقات وأمام مكاتب الأطباء، يقبلون أقدام الممرضات للالتفات إليهم، تشعر أنك فى عالم آخر حيث تُنتهك آدمية المواطن بجميع صورها، لكن السؤال الأهم: إذا كان هذا هو المشهد بعد أن قام مدير المستشفى بمراجعته وترتيبه، فكيف يكون الوضع المعتاد؟
تطلبت الإجابة زيارة أخرى، هذه المرة تجاهلنا المرور على مكتب المدير، والبداية كانت فى وحدة أمراض الباطنة، يتسع العنبر لـ20 سريرا، لكن أرضيته تتسع لنفس العدد تقريبا، لذا تجد بين كل سريرين مريضاً يفترش ملاءة متسخة، وإلى جواره أنبوبة الجلوكوز، أغلبهم مصابون بالملاريا والتيفود.
يجذب الانتباه مشهد فتاة عشرينية محمومة، تنتفض ألما وتتلوى بصرخات مكتومة، تهرع إليها فتاتان، إحداهما «إيفون»، جاءت مع زوجها الذى وضع على الأرض منذ وصوله قبل يومين، تقسم أنها لم تشاهد أحداً يقدم له أى دواء أو يقوم بالكشف عليه، لكنهم لا يملكون غير الانتظار، أما هذه الفتاة بحسب إيفون فهى تشكو من الزائدة الدودية وتحتاج إجراء جراحة، والطبيب متغيب منذ يومين وتليفونه مغلق، «لا نملك حق الشكوى، لأننا لا ندفع مالاً للعلاج».
تحت النوافذ أيضا ثمة مرضى يتلقون نوعا واحدا من العلاج لأمراض مختلفة، بحسب إحدى الممرضات التى علقت: «لا يوجد لدينا سوى الجلوكوز، نضعه لهم فهو لا يضر»، تتجول هنا يمينا ويسارا فلا تجد سوى رائحة المرض والكلاب، فى الطرقات وتحت الأسرة وفوقها أيضا، أعدادهم تفوق أعداد الممرضين، الكلاب هنا تلعق أجساد المرضى الذين تهاووا بفعل الألم، تسقط الأغطية عن أجسادهم العارية فلا تجد من يسترها، تخرج أصواتهم باهتة تطلب العون لا يجيب أحد، فتتوارى مرة أخرى فى سكون يبعث على الكآبة.
العيادات الخاصة فى الجنوب كثيرة، لكن من يستطيع أن يدفع ثمنها، الفقر سمة مميزة هنا، رسوم الكشف تبدأ بمائة جنيه سودانى، علاوة على أسعار الدواء «المستورد» بطبيعة الحال، أما هنا فى مستشفى جوبا التعليمى فالعلاج بالمجان، هذا إن وجد، باستثناء أقسام التيفود والملاريا فإن المرضى يدفعون 5 جنيهات. يقول «دومنى»، طبيب فى وحدة الملاريا: إن المستشفى يستقبل يوميا 300 مصاب بالملاريا وحده، ونحاول أن نقدم لهم ما نقدر عليه وهو قليل، يلفت الطبيب انتباهنا إلى واقعة حدثت فى نهاية عام 2009، عندما أضرب أطباء هذا المستشفى عن العمل بعد تأخر صرف رواتبهم 6 أشهر، فقامت قوات الشرطة فى الجنوب بضربهم جميعا وأجبروهم على العودة للعمل، وعقب الطبيب بقوله: «إذا كان هذا هو حال الدكتور، فلك أن تتخيل حال المرضى».
بالمستشفى أيضا وحدة أشعة حديثة «X rays»، لكنها جاءت هدية من الحكومة التركية. وقال أحد الأطباء العاملين بالوحدة: «عندما جاءوا بالأجهزة، أصروا أن توضع هذه اللافتة على الباب لتؤكد أنهم من قدموها لنا.. لا أحد يعطى من أجل العطاء».
الحالة المزرية التى عليها المستشفى الحكومى الأوحد والأكبر فى عاصمة جنوب السودان جعلت الكثيرين يعودون للعلاج الشعبى، فى الأسواق تجدهم جالسين، أغلبهم مسلمون، يستخدمون الأعشاب الطبية والصخور والشعب المرجانية والتعاويذ. الشيخ «أحمد» نيجيرى الأصل، لكنه نشأ فى قبيلة الدمازيل فى إقليم النيل الأزرق، وتعلم هذه المهنة على يد أستاذه الشيخ على الجرانى، يزعم أن هذه الأعشاب والتركيبات تساعد فى شفاء مرضى الزهرى والسيلان، وهى أمراض منتشرة جدا فى الجنوب بحسب الشيخ لسهولة إقامة العلاقات الجنسية بين أبناء القبائل الذين يعتبرون الشريحة الأهم بين زبائنه - على حد قوله - علاوة على علاج الحمى الصفراء والتيفود والصرع، لكن صنعته الأساسية تتمثل فى تعاويذه، التى هى جوارب صنعت من جلود الماعز وطويت على كتابات باللغات الأفريقية أهمها السواحيلى، كما يمكن تحويل هذه التعاويذ إلى أحزمة تربط على البطن أو تعلق فى الكتف أو الرقبة أو المعصم.
إحدى هذه التعاويذ تسمى «أم الصبيان» عبارة عن قفل حديدى به 3 مفاتيح ملفوفة بالكامل بالجلد الأصفر، وتستخدم لطرد الجن وعلاج الصرع، كما توجد لفافات ورقية معقودة بخيوط سوداء على أشكال صليب. يحدد الشيخ أحمد العدد الذى يحتاجه كل مريض وفق نوع المرض، فتلك التى تستخدم لعلاج الملاريا يجب أن تدهن بالزيت الحار وتحبس مع عنكبوت ثم يطحن مع عشب «الدوم» ويأكله المريض، بعد أن يفتح التعويذة ويقرأ ما فيها أو يقرأها عليه من يجيد اللغة التى كتبت بها التعويذة، ولما اخترنا إحدى التعويذات عشوائيا وطلبنا قراءتها وجدنا مكتوباً فيها «ومن يحصل عليها ويدخل الحرب توقفت الأسلحة أمامه وعاد منتصرا».