دخلت تركيا، منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002، مرحلة جديدة في سياستها الخارجية، قوامها الاستقلالية والانفتاح، وتحسين العلاقات الإقليمية مع الجميع، لكنها عززت دورها مع الدول العربية من منطق أن الجيران الأقوياء يحمون مصالحها في مواجهة المنافسين التقليديين في المنطقة، خاصة إيران وإسرائيل، ولم تعد أنقرة جزءاً من المنظومة الغربية أومجرد تابعٍ للسياسة الأمريكية والإسرائيلية.
وبدا الدور التركي وقد أصابته الثورات العربية بالارتباك، فقد أيدت أنقرة ثورتي مصر وتونس، ومع تخلي رئيس الوزراء التركي، رجب طيب أردوجان، عن دبلوماسيته الهادئة وتوجيهه انتقادات للرئيس المصري السابق حسني مبارك، ومطالبته بالتنحي كانت تركيا ذات رؤية صحيحة بأن النظام في مصر آيل للسقوط، فكانت متقدمة في مواقفها حتى على الولايات المتحدة. كما واجه «أردوجان» العقيد معمر القذافي، والرئيس السوري، بشار الأسد، بأسلوب اتسم بالجرأة، إلا أن المصالح التركية الاقتصادية في ليبيا لم تسمح لها باتخاذ موقف مثيل لموقفها مع الثورة المصرية، وبدا موقفها مرتبكا من رفض أولي للتدخل العسكري.
وشكلت علاقات تركيا المتميزة مع النظام السوري، والتقارب الجغرافي وخصوصية وحساسية الوضع السوري، قيدا على مسلكها تجاه الثورة السورية، بجانب التعاون بين الجانبين في مكافحة المتمردين الأتراك، وتعقيد العلاقات السورية الإيرانية، ولم تجد في البداية سوى تشجيع النظام السوري على الاستجابة للإصلاح، لكن مع مرور الوقت بدأت تغير موقفها المطالب بوقف قتل المدنيين دون أن يرقى حتى الآن للمطالبة برحيل الأسد.
ويمثل الموقف التركي الداعم لإقامة دولة فلسطينية مستقلة والمعارض للاحتلال الإسرائيلي حجر الزاوية في علاقاتها وسياستها مع دول المنطقة بصفة عامة ومع إسرائيل بصفة خاصة، وهو ما أثار أزمة سياسية منذ الحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة. ومما يدعم التغلغل التركي في المنطقة العربية - وهو ما يظهر واضحاً في العراق مثلاً- أنها تحظى بصورة إيجابية لدى شرائح عربية واسعة، تبدي إعجابها بالنموذج التركي، الذي نجح في حل إشكالية الدين والدولة وإشكالية التداول السلمي للسلطة، بجانب نجاحات تركيا الاقتصادية.
ورغم أن السياسيين العرب والمحللين يبدون شكوكا في الدور التركي المتزايد في العمق العربي، فإن أنقرة تسعى لذلك من منطلق مصالحها الاقتصادية وريادتها في الوقت الذي يبدو فيه دورها أقرب إلى الحلول الوسط وتفضيل وجود أنظمة عربية قوية، خاصة في مصر والسعودية، بهدف إحداث توازن مع المشاريع الأخرى المتنافسة، خاصة المشروع الأمريكي الغربي والمشروع الإيراني.
وتمثل زيارة الرئيس التركي، عبدالله جول، مؤخرا للرياض مؤشرا للتقارب بين قطبي المنطقة السنيين في مواجهة تحديات طهران ودمشق، بما يساهم في إعادة صياغة التنافس بين التيارين السني والشيعي في المنطقة، ومثلت رؤية تركيا الواعية لثورات الشعوب العربية، منطلقا أساسيا لصياغة مبادئ سياستها الخارجية، التى ترتكز على احترام إرادة الشعوب والحفاظ على استقرار الدول العربية ورفض التدخل الأجنبي، وعرض دور الوساطة.