رغم مرور أكثر من 100 عام على تفسير الشيخ محمد عبده، الذى كان يشغل منصب مفتى الديار المصرية وكان رائد الإصلاح والتجديد للخطاب الدينى فى عصره، لآخر آيتين من سورة الفاتحة «اهدنا الصراط المستقيم.. صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين»، وتوافق الشيخ محمد متولى الشعراوى مع رؤيته فى خواطره، بالإضافة إلى تفسير شيخ الأزهر الراحل، الدكتور محمد سيد طنطاوى، إلا أنه لاتزال هناك كتيبات توزع وقت العزاء ترحمًا على الفقيد ومعها تفسيرات مغايرة لهم، وتجعل من كان مسيحيًا وحضر لتقديم واجب العزاء من «الضالين».
قبل أيام وأثناء تأدية واجب العزاء فى مسجد عمر مكرم، وُزع كتاب تفسر صفحاته آخر آيتين من سورة الفاتحة بأن «المغضوب عليهم» هم اليهود، و«الضالين» هم النصارى» بينما «الذين أنعمت عليهم» المقصود بهم «المسلمين»، وهو تفسير بأقرب بحث متاح على شبكة الإنترنت يتواجد مثلًا على موقع جامعة الملك سعود.
وجاء تفسير الآيتين على موقع جامعة الملك سعود على النحو التالى:
عن عدى بن حاتم، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله: (غير المغضوب عليهم) قال: هم اليهود (ولا الضالين) قال: النصارى هم الضالون. وهكذا رواه سفيان بن عيينة، عن إسماعيل بن أبى خالد، عن الشعبى، عن عدى بن حاتم به. وقد روى حديث عدى هذا من طرق، وله ألفاظ كثيرة يطول ذكرها. وقال عبدالرزاق: أخبرنا معمر، عن بديل العقيلى، أخبرنى عبدالله بن شقيق، أنه أخبره من سمع النبى صلى الله عليه وسلم وهو بوادى القرى، وهو على فرسه، وسأله رجل من بنى القين، فقال: يا رسول الله، من هؤلاء؟ قال: المغضوب عليهم - وأشار إلى اليهود - والضالون هم النصارى. وقد رواه الجريرى وعروة، وخالد الحذاء، عن عبدالله بن شقيق، فأرسلوه، ولم يذكروا من سمع النبى صلى الله عليه وسلم. ووقع فى رواية عروة تسمية عبدالله بن عمر، فالله أعلم».
لكن فى قراءة لـ«تفسير الفاتحة»، وهو عبارة عن ملخص لدروس الشيخ محمد عبده نجده ينظر للآيات بأن «الصراط المستقيم هو الموصل إلى الحق»، لافتًا إلى أنه «فسر بعضهم المنعم عليهم بالمسلمين والمغضوب عليهم باليهود والضالين بالنصارى».
ويرى الشيخ محمد عبده فى كتابه الصادر بمطبعة الموسوعات بباب الخلق عام 1319 هـ، أنه لا خلاف على أن سورة الفاتحة من أوائل السور التى نزلت على النبى محمد و«لم يكن المسلمون فى أول نزول الوحى بحيث يطلب الاهتداء بهداهم وما هداهم إلا من الوحى ثم هم المأمورون بأن يسألوا الله أن يهديهم هذا السبيل، سبيل من أنعم الله عليهم»، فى إشارة منه كما يقول إلى «الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين من الأمم السالفة».
ويستند الشيخ محمد عبده فى تفسيره إلى أن «ثلاثة أرباع القرآن تقريبًا قصص وتوجيه للأنظار إلى الاعتبار بأحوال الأمم فى كفرهم وإيمانهم وشقاوتهم وسعادتهم، ولا شىء يهدى الإنسان كالمثلات والوقائع».
وكما يقول الشيخ محمد عبده: «القرآن يبين لنا الجواب وهو يصرح بأن دين الله فى جميع الأمم واحد، وإنما تختلف الأحكام بالفروع التى تختلف باختلاف الزمان، وأما الأصول فلا خلاف فيها»، مستندًا إلى قوله تعالى: «قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم»، و«إنا أوحينا إليك، كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده».
ويستند فى تفسيره إلى أن «الاعتقاد بالله والنبوة وبترك الشر وبعمل البر والتخلق بالأخلاق الفاضلة مستو فى الجميع، وقد أمرنا الله بالنظر فيما كانوا عليه والاعتبار بما صاروا إليه، فنقتدى بهم فى القيام على أصول الخير، وهو أمر يتضمن الدليل على أن فى ذلك الخير والسعادة».
وبعدها تحدث الشيخ محمد عبده فى الكتاب عن قوله تعالى: «غير المغضوب عليهم»، قائلًا: «المغضوب عليهم، هم الذين خرجوا عن الحق بعد علمهم به، والذين بلغهم شرع الله ودينه فرفضوه ولم يتقبلوه».
كما شرح أن المغضوب عليهم «ضالون أيضًا لأنهم بنبذهم الحق وراء ظهورهم قد استدبروا للغاية واستقبلوا غير وجهتها فلا يصلون إلى مطلوب، ولا يهتدون إلى مرغوب»، مقسمًا الضالين إلى أقسام.
القسم الأول من الضالين هم «من لم تبلغهم الدعوة إلى الرسالة أو بلغتهم على وجه لا يسوق إلى النظر، فهؤلاء لم يتوفر لهم من أنواع الهداية سوى ما يحصل بالحس والعقل، وحرموا رشد الدين».
أما القسم الثانى فهو «من بلغته الدعوة على وجه يبعث على النظر، فساق همته إليه واستفرغ جهده فيه، ولكن لم يوفق إلى الاعتقاد بما دعى إليه، وانقضى عمره وهو فى الطلب، وهذا القسم لا يكون إلا أفرادًا متفرقة فى الأمم، ولا يعم حاله شعبًا من الشعوب، فلا يظهر له أثر فى أحوالها العامة، وما يكون لها من سعادة وشقاء فى حياتهم الدنيا».
ويرى الشيخ محمد عبده أن «القسم الثالث من بلغتهم الرسالة وصدقوا بها بدون نظر فى أدلتها، ولا وقوف على أصولها فاتبعوا أهواءهم فى فهم ما جاءت به فى أصول العقائد، وهؤلاء هم المبتدعة فى كل الدين، ومنهم المبتدعون فى دين الإسلام، وهم المنحرفون فى اعتقادهم عما تدل عليه جملة القرآن».
ويستكمل شرحه بالإشارة إلى أن «القسم الرابع ضلال فى الأعمال وتحريف للأحكام عما وضعت له، كالخطأ فى فهم معنى الصلاة والصيام وجميع العبادات، والخطأ فى فهم الأحكام التى جاءت فى المعاملات».
وبعد شرح مطول لمقاصده، يتوصل الشيخ محمد عبده إلى أنه «علمنا الله تعالى كيف ندعوه، بأن يهدينا طريق الذين ظهرت نعمته عليهم بالوقوف عند حدودهم، وتقويم العقول والأعمال بفهم ما هدانا إليه، وأن يجنبنا طرق أولئك الذين ظهرت فيهم آثار نقمه بالانحراف عن شرائعه سواء كان ذلك عمدًا وعنادًا أو غواية وضلالًا».
وبمشاهدة نحو 49 دقيقة لفيديو موجود على موقع يوتيوب يظهر فيه الشيخ محمد متولى الشعراوى يفسر فيه آخر الآيات فى سورة الفاتحة، نجده متأثرًا بمنهج الشيخ محمد عبده.
وخلاصة ما قاله الشيخ الشعراوى إن «المغضوب عليه من عرف الحق وكابر فيه، والضال غلبان ومالقاش حد يهديه وذنبه أنه كان واجب عليه أن يبحث فى مسألة دينه، ولذلك جاء فى المرتبة الثانية، والمغضوب عليهم: لم يكتفوا بضلال نفوسهم بل حاولوا ضلال غيرهم وهم الذين ضلوا وأضلوا»، وهو ما يقترب من الأقسام التى وضعها الشيخ محمد عبده للضالين وفقًا لرؤيته.
وهناك فيديو آخر مدته تقترب من 9 دقائق، لشيخ الأزهر الراحل، الدكتور محمد سيد طنطاوى، يفسر فيه سورة الفاتحة، ويرى أن صراط الذين أنعمت عليهم هم من «أنعمت عليهم بنعمة الإسلام وبنعم لا تعد ولا تحصى، وعلى رأسها إخلاص العبادة لله الواحد القهار».
كما يضيف فى تفسيره للدعاء الموجه إلى الله تعالى فى ختام سورة الفاتحة بأنه «جنبنا يا مولانا طريق الذين غضبت عليهم لشركهم، وطريق الضالين الذين تاهوا فى الجهالات وعبدوا غيرك».
وفى طبعة صادرة، عام 2005، تحت عنوان: «القرآن الكريم.. والتفسير الميسر»، الذى خطَّه الشيخ طنطاوى، فكتب عن الآيات «اهدنا الصراط المستقيم.. صراط الذين أنعمت عليهم.. غير المغضوب عليهم.. ولا الضالين» أنه «اهدنا وأرشدنا وثبتنا يا ربنا على طريقك المستقيم وهو طريق الإسلام، الذى هو طريق عبادك الصالحين، وليس طريق الذين أعرضوا عن الحق بعد العلم تكبرًا وعنادًا وحسدًا، وليس طريق البعيدين عن الصواب حيرة وجهلًا».
ويعلق الدكتور محيى الدين عفيفى، أمين عام مجمع البحوث الإسلامية، قائلًا لـ«المصرى اليوم»: «التفسير المتداول فى كتيب العزاء يتنافى مع ما ورد فى القرآن الكريم، فالقرآن الكريم تحدث عن النصارى بقوله تعالى: (لتجدن أقربهم مودة للذين آمَنُوا الذين قالوا إِنَّا نصارَى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يَسْتَكْبِرُون)».
ويضيف أمين عام مجمع البحوث الإسلامية: «هناك قواسم وقيم مشتركة بين الأديان السماوية، وبالتالى أى تفسير أو توجيه يتنافى مع ما ورد فى القرآن الكريم غير مقبول، فالله تعالى يقول: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)».
وقال عن صاحب تفسير الكتيب: «من غير المعقول أن يحكم الإنسان على الناس لأن المسألة والحساب مردها عند الله تعالى، لأن ربنا سبحانه وتعالى لو أراد أن يخلق الناس كلهم مسلمين لفعل، ولو أراد أن يخلق الناس كلها مسيحيين لفعل، ولكن الله سبحانه وتعالى أراد التعددية»، مشددًا على أنه «أى شىء يخرج عن السياق والمجتمع الإنسانى الذى تحدث عنه القرآن الكريم غير مقبول، فكل إنسان يؤخذ منه ويرد عليه، والذى قال هذا الكلام (تفسير الكتيب) بشر ولا عصمة لبشر أبدًا، وهناك زمالة إنسانية بين كل الأديان وبين كل الناس على مستوى العالم، وهذا الكلام أو التفسير غير مقبول بالمنطق القرآنى».
وبالتالى بعد عرض ما سبق، نحن فى حاجة إلى قيام الأزهر بمراجعة ما ينشر أو يتداول من تفسيرات خاصة بالقرآن الكريم داخل القطر المصرى وتنقيحها من موروثات قد يراها البعض مسلمات لا يجوز التعامل معها، رغم أنها اجتهادات بشر يمكن الرد عليها وتفسيرها بأكثر من وجه.