x

مصر.. أزمة ديمقراطية لا أزمة أديان وطوائف

الخميس 13-01-2011 15:55 | كتب: عمر عاشور |

 

* د.عمر عاشور

«الأقباط أصل البلد، نحن نتعامل بمحبة مع ضيوف حلوا علينا ونزلوا فى بلدنا...نحن كمسيحيين نصل إلى حد الاستشهاد إذا أراد أحد أن يمس رسالتنا المسيحية».

«خليني بس أقول هي (الكنيسة القبطية) مش جمهورية موازية، هي إمبراطورية موازية».

لم تأت العبارتان من أحد المواقع القبطية الراديكالية أو من المواقع الجهادية، وإنما جاءت الأولى من الأنبا بيشوي، سكرتير المجمع المقدس، الخليفة المحتمل للبابا شنودة – في 15 سبتمبر الماضي. أما الثانية فكانت الرد السريع من المفكر الإسلامي المعروف د. محمد سليم العوا على قناة الجزيرة مساء اليوم نفسه.

وقد عكس التراشق بين قيادات معتبرة حدة الاستقطاب الاجتماعي-الديني الذي أصابت عدواه مصر، خاصةً في الأشهر الأخيرة التي سبقت التفجير الإرهابي لكنيسة القديسين في الإسكندرية في أولى ساعات السنة الجديدة وإطلاق النار 11 يناير (مقتل شخص واصابة 5) على متن قطار في الصعيد.

تعود القصة الحزينة لتهتك أوصال الترابط الاجتماعي والديني في مصر سنوات عدة للوراء. فمنذ انقلاب 1952، لم تكن علاقات حكام مصر بأقلياتها الدينية دائماً سهلة، على الرغم من «الكليشيهات» الرسمية. فقد كان للصراع العربي- الإسرائيلي عواقب كارثية على الأقلية اليهودية في مصر – خاصة بعد عملية لافون العام 1954 (خطة تفجيرات لأهداف غربية قام بها يهود مصريون لحساب الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية وألقيت التهمة قبل انكشافهم أولاٌ على الإخوان والشيوعيين)، ثم العدوان الثلاثي (أزمة وحرب السويس) العام 1956. حينئذٍ أدى رد فعل النظام- الذي لم يفرق كثيراً بين عميل للاستخبارات الإسرائيلية وبين معادٍ للحركة الصهيونية وكل من بينهما – إلى هجرة الأغلبية الساحقة من اليهود المصريين. ثم جاءت مسألة البهائيين، وهي أقلية صغيرة اُعتبر دينهم ديناً مختلفاً في 1924 أثناء حقبة مصر الليبرالية، ثم اعتُبر غير شرعي العام 1960. وهم يناضلون لإعادة الاعتبار منذ ذلك التاريخ. ودعونا لا ننسى الشيعة الذين اتهمهم رئيس الجمهورية حسني مبارك - على الجملة- بأن أكثر ولاءاتهم تعود لإيران لا لأوطانهم!

أما أكبر أقليات مصر على الإطلاق – وهي المسيحية الأرثوذكسية القبطية – فكانت علاقاتها ديناميكية مع أنظمة ما بعد انقلاب 1952، تسوء أحياناً وتتحسن أحياناً أخرى. ولكن علاقاتها مع التيارات الإسلامية المصرية لم تُبحَث كثيراً على الرغم من أهميتها وحضورها في الأزمة الأخيرة.

الموقف الرسمي للإخوان المسلمين – أكبر جماعات مصر الإسلامية – هو أن الأقباط مواطنون لهم حقوق متساوية. ويسارع قادة الإخوان الى القول لأي باحث في المسألة القبطية بأن السيد مكرم عبيد – السياسي الوفدي المسيحي الشهير – كان الرجل الوحيد الذي حضر جنازة الشيخ حسن البنا – نظراً لظروف القمع السياسي، وبأن القبطي الوحيد الذي اُنتُخب في برلمان 1987 كان على قائمة «التحالف الإسلامي» وشعارها «الإسلام هو الحل». ولكن هذه الحقائق لا تعكس خلافات الإخوان الداخلية حول المسألة القبطية. وقد ظهرت تلك الخلافات بوضوح بعد إعلان البرنامج السياسي للجماعة العام 2007، والذي جاء فيه أن القبطي لا يصلح لتولي رئاسة الجمهورية.

نظرة الأقباط الى الإخوان ليست إيجابية هي الأخرى ، وبخاصة في خارج مصر. فقد أظهرت دراسة أجريتها عن النشاط السياسي القبطي في الخارج أربعة تيارات: ليبراليون وبراجماتيون (أي واقعيون/عَمَليّون) ومحافظون وراديكاليون (أي راغبون في التغيير السريع وربما الثوري). الأكثر تسامحاً مع «الآخر» في التيارات الأربعة كانوا الليبراليين، وهم يتشككون في نوايا الإخوان تجاههم. أما التيارات الأخرى فيتراوح اعتقادها ما بين التآمر السياسي للإخوان على الأقباط، إلى تورط الإخوان في مجازر وعمليات إرهابية ضد الأقباط. نظرات أقباط الداخل متعددة ومختلفة أيضاً، لكن الشك يشوبها كذلك. وربما يلخص موقف الكنيسة من الإخوان كلمات الأنبا بيشوي التالية: «نحبهم لأن السيد المسيح أمرنا أن نحب كل الناس.. وأنا أول من سيفرح لو آمن الإخوان المسلمون بحقوق الإنسان».

النظرة السلبية تمتد وتشوب علاقة الأقباط بثاني أكبر التيارات الإسلامية المصرية: الحركة السلفية. السلفيون في مصر هم أقل نشاطاً من الإخوان في المجال السياسي، ونادراً ما يخرجون في مظاهراتٍ. لكن تفاقم الأوضاع في مصر وحدة الاستقطاب الديني أدى إلى خروج المئات من السلفيين وغيرهم من المسلمين إلى شوارع الإسكندرية. وكان مطلب المتظاهرين في الشهور الماضية واضحاً لا لبس فيه: هم يعتقدون أن الكنيسة القبطية تحتجز مسيحيات اعتنقن الإسلام، ويريدون الإفراج الفوري عنهن. لكن علاقة السلفيين مع الأقباط لم تكن دائماً بهذه الحدة. ففي أواخر ثمانينيات القرن الماضي تمكنت مجموعة من الشيوخ السلفيين من تهدئة موقفٍ كان قاب قوسين أو أدنى من الانفجار في منطقة شبرا ما بين أقباط المنطقة والجماعة الإسلامية – التي كانت لا تزال في حقبة العمل االمسلح والتحرش بالأقباط.  

منذ سنوات تناولت تقارير صحافية وحقوقية مسألة تسليم جهاز مباحث أمن الدولة مسيحيات أسلمن إلى الكنيسة القبطية. لكن قضايا وفاء قسطنطين وكاميليا شحاتة وماري عبد الله زكي (وكلهن زوجات لقساوسة أقباط) وتسليمهن الى الكنيسة للنصح، ثم اختفاؤهن بعد ذلك، أشعل فتيلاً طائفياً لم يدفع السلفيين وغيرهم إلى الشارع وحسب، لكنه أثار أيضاً انتباه قاعدة العراق لما يجري في مصر.

تعامل الحكومة مع قضايا وفاء وكاميليا وماري سلط الضوء على أزمةٍ أكبر. ففي مصر تحتل «حقوق الفرد» المرتبة الأخيرة أسفل قائمة الحقوق، فيما يأتي حق الزعيم (الذي يخلطه البعض- أحياناً عمداً وزوراً - بحق الوطن) في أعلى القائمة ، ثم حق الحكومة وأجهزة أمنها، ثم حق من يمثل الدين (الكنيسة كانت أو الأزهر أو غيرهما)، ثم حق العشيرة، ثم حق العائلة، ثم كيانات اجتماعية أخرى، وأخيراً يأتي حق الفرد في الاعتقاد والتفكير والتعبير وغير ذلك. فالسلفيون الذين خرجوا للاحتجاج في الشارع لم يكونوا بالضرورة يدافعون عن حرية الفرد في اختيار المعتقد، وإنما عن أخوات في الدين والعقيدة حسب تصورهم.

بالإضافة إلى هذه النظرة غير المتوازنة لمسألة الحريات، اختارت حكومة مبارك التعامل مع مشكلة الترابط الاجتماعي والشد الطائفي على أنها تهديد أمني للنظام الحاكم – بغض النظر عن محتواها السياسي والاجتماعي وأسبابها وضحاياها. فكما يقول البابا شنودة: «في المشكلات الطائفية لا نرى دورا سوى لرجال الأمن، وسط غياب تام لأعضاء البرلمان والمجالس المحلية».

وعندما تسيء الأجهزة القمعية التعامل مع الاستقطاب ويؤدي فشلها إلى العنف، يتعامل النظام مع الموقف بدرجة أعلى من القمع والعنف، وهي السياسة التي تم اتباعها بكثافة في التسعينيات، وكانت من نتائجها سنوات خمس من الدماء في صعيد مصر(1997- 1992).

وقضية الشاب السلفي السيد بلال هي ربما تكرار لما كان يحدث في جنوب مصر منذ عقدين. فقد تم اعتقاله بعد حادثة التفجير – وهو إجراء روتيني من وجه نظر الأمن – ثم سلمت جثته لأهله بعد 24 ساعة من اعتقاله.

أصل أزمة مصر الطائفية ليس دينياً أو أيديولوجياً، بل هو يتعلق بغياب أربعة عوامل – ثلاثة منها حقوق أساسية: حقوق مواطنة متساوية (بغض النظر عن الدين)، والحق الدستوري في حرية الاعتقاد والعبادة، وآلية محاسبة للنظام الحاكم وشفافية آلية اتخاذ القرار، وأخيراً استراتيجية شفافة لتقوية الترابط الديني-الاجتماعي بين مكونات الشعب المصري (ويستحسن ألا ترتكز على قوات الأمن المركزي والتعذيب حتى الموت وسياسية اختفاء المواطنين – وهي أركان الاستراتيجية الحالية).

غضب المصريين – أقباطهم ومسلميهم – على النظام الحاكم له سببٌ أكثر عمقاً من ضعف الإجراءات الأمنية حول كنيسة القديسين في وقت احتقانٍ ومشاداتٍ وتهديدات.

السبب الرئيس لهذا الغضب هو انعدام الإرادة السياسية للنظام الحاكم لاتخاذ قرارات تضمن المساواة بين حقوق المواطنين، وحرية الاعتقاد والتعبير، والشفافية والمحاسبة، ثم فشله بعد ذلك في تهدئة أزمةٍ كان الدخان يتصاعد من رمادها بشكل يومي في الأشهر الأخيرة قبل عملية الإسكندرية. فأزمة مصر التي لم تحل بعد، إذاً، هي أزمة ديمقراطية، لا أزمة أديان وطوائف.  

 

* د.عمر عاشور أستاذ محاضر في العلوم السياسية ومدير برنامج الدراسات العليا في سياسة الشرق الأوسط في جامعة إكستر البريطانية. مؤلف كتاب «تحولات الحركات الإسلامية المسلّحة» (لندن، نيويورك: روتليدج، 2009).

 

تنشر هذه المقالة باتفاق خاص مع نشرة الإصلاح العربي، الصادرة عن مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي - جميع الحقوق محفوظة.

http://www.carnegieendowment.org/arb

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية