«هل كان الإسكندر يعلم أنه لا يقيم مدينة تحمل اسمه خالداً فى الزمان، وإنما يقيم عالماً بأسره وتاريخاً كاملاً؟ أغلب الظن أنه كان يعرف، هو لم يكن معنياً بالخلود فقط، وإنما بتغيير الدنيا».. هكذا افتتح الروائى المصرى «إبراهيم عبدالمجيد» أحد فصول روايته المهمة «لا أحد ينام فى الإسكندرية». هل كان «عبدالمجيد» يعرف أنه لا ينعى فقط مدينة تاريخية لم تعرف على مدار تاريخها فضيلة مثل التسامح وتقبل الآخر، وإنما ينعى مصر كلها؟ أغلب الظن أنه كان يعرف، وهو لم يكن معنياً بتلك القضية فقط، وإنما بتسجيل فترة مهمة من تاريخنا لا يسعنا إنكارها.
على كرسى خشبى صغير داخل صيدليته العتيقة التى تحمل اسم «أثينا» يجلس «نيقولا نيكيتاس بابا أنطونيوس» 86 سنة، يسمح له موقعه الاستراتيجى فى مواجهة المدخل بأن يرسل بصره من حين لآخر عبر نظارته السميكة ليتابع المارة فى شارع الأسقفية بحى المنشية بمدينة الإسكندرية، ذلك الشارع المزدحم على الدوام بسبب وقوع مبنى الكنيسة اليونانية به، بالإضافة إلى عشرات المحال التجارية التى يرجع عمر بعضها إلى ما يزيد على المائة عام، تلك التى كانت تتوزع ملكيتها بين يونانيين وإيطاليين وأرمن ويهود مصريين عاشوا فى المدينة التاريخية جنباً إلى جنب أهلها من المسلمين والمسيحيين لسنوات طويلة، قبل أن يختار بعضاً منهم هجرة المكان، ويُجبر البعض الآخر على تركه، مخلفين وراءهم محالهم التى ورثها عنهم مصريون من أولاد البلد.
وحده «نيقولا» - ذو الأصل اليونانى - رفض الهجرة، تسأله فيرفع رأساً مكللاً بالبياض، ويرد بعربية سليمة تفقد سلاستها أحياناً فتؤنث المذكر وتذكر المؤنث «ليه هو أنا مش مصرى ومعايا الجنسية المصرية؟» يتركك لثوان يتحرك فيها بخطوات أثقلها الكبر إلى داخل مكتب صغير يشغل جزءاً من الصيدلية، ويعود حاملاً فى يده شهادة جنسية ممهورة بخاتم المملكة المصرية تشهد بـ «منح نيقولا بابا أنطونيوس نيكيتا الجنسية المصرية فى أغسطس من عام 1952»، وفيها «توجه وزارة الداخلية النظر إلى نص المادة العاشرة من قانون الجنسية المصرية رقم 160 لسنة 1950، التى تقضى بألا يكون لحامل هذه الشهادة حق التمتع بالحقوق الخاصة بالمصريين أو بمباشرة حقوقهم السياسية قبل انقضاء خمس سنوات من تاريخ كسبه هذه الجنسية كما لا يجوز انتخابه أو تعيينه عضوا فى أى هيئة نيابية قبل مضى عشر سنوات من التاريخ المذكور». يشير «نيقولا» لصورة فوتوغرافية قديمة له مثبتة فى الشهادة قبل أن يقول «شوف كنت حلو إزاى وأنا صغير».
تحمل الصورة بالفعل قدراً كبيراً من الوسامة لشاب صغير لا يتجاوز عمره الثلاثين، يُظهر عناية فائقة بشعر أسود على رأسه، وشارب رفيع يزين أعلى الفم، فيما تظهر بوضوح أناقة لافتة تليق بشاب عاش فى أربعينيات القرن الماضى، ولد فى مصر كما يروى لأبوين من أصول يونانية ولدا هما أيضاً فى الأراضى المصرية. لا يعلم كما يقول تاريخا لدخولهما البلد رغم اهتمامه البادى بالتواريخ. يتحدث بفخر ممزوج بالحنين عن والده الصيدلى الذى افتتح الصيدلية فى مكانها الحالى ثلاثينيات القرن الماضى عقب حصوله على دبلوم من إنجلترا ممثلاً بذلك الجيل الثانى فى الأسرة- بعد الجَد- الذى يعمل بالصيدلة، نفس المهنة التى حلم الأب بأن يورثها لولده الوحيد «نيقولا» الذى فتح عينيه للمرة الأولى على الدنيا فى 30 مارس عام 1924.
«أنا اتولدت فى المزاريطة» يروى «نيقولا»، ويواصل «وأنا صغير دخلت مدارس وفضلت فى إسكندرية لغاية ما قامت الحرب، سافرنا المنصورة عشان هنا كان فيه قنابل بتنزل». من المنصورة للقاهرة حيث التحق الشاب الصغير بالجامعة الأمريكية كلية الصيدلة ليحقق حلم والده الذى يقول عنه «صرف على ياما وتعب عشان يشوفنى صيدلى»، وبعد عامين عندما أنشأت جامعة الإسكندرية كلية للطب والصيدلة انتقل إليها «نيقولا» وحصل منها على البكالوريوس بتفوق ثم عين معيداً قبل أن يترك الجامعة للأبد فى نهاية الأربعينيات ليساعد والده فى عمله بالصيدلية.
سارت الأمور سيرها الطبيعى: يدير الوالد الصيدلية بمعاونة الابن الوحيد الذى يقضى وقته ما بين العمل وممارسة هواية الصيد مع أصدقاء كثيرين بنادى الصيد بمنطقة محرم بك، والذى كان يرأسه فى ذلك الحين «سليمان عزت» رئيس البحرية. لا يكدر صفو العيش شىء حتى يأتى يوم 17 يوليو عام 1961، وهو يوم يتذكره «نيقولا» تماماً والسبب «أممونى».
صدرت القرارات الاشتراكية للرئيس «عبد الناصر» حتى يفقد «نيقولا» كل شىء، فعلى حد تعبيره «خدوا كل حاجة»، يعددها «خدوا عربيتى، خدوا فلوسى من البنك، خدوا حاجتى من هنا، خدوا بضاعة 90 ألف دولار فى لوت على مركب»، وأسوأ ما فى الموضوع أن الأب لم يستطع أن يتحمل الخبر فـ«راح فيها» ووجد «نيقولا» نفسه وحيداً «صحيت الصبح بدرى وخدتها مشى من الصيدلية لسرايا المنتزه، مسكت السور بتاع السرايا وقلت للملك أنا وأنت واحد، أنت راح منك السرايا بتاعتك، وأنا خدوا منى السرايا بتاعتى، سرايتى شبر بس السرايا بتاعتك بلد بحالها».
رغم ضيق الحال رفض «نيقولا» أن يغادر مصر «أسيب بلدى وأروح فين.. أنا اتولدت هنا»، ويواصل «مش أنا بس اللى اتأممت، أمموا برضه محلات كانت جنبى هنا، ودلوقت بتتباع»، ولم يفرق التأميم بين مصرى وأجنبى «شفت عبود باشا اتنين ماسكينه بيطلعوه المباحث العامة، يعنى بيطلعوه ليه؟ عشان يشوفوا طوله وعرضه؟ لأ خدوا منه كل حاجة»، ورغم حزنه وقتها، لا يشعر نيقولا بأسف حالياً، فمن وجهة نظره أن قرارات التأميم كانت مطلباً للشعب، وهو كما ردد أكثر من مرة «باحترم الشعب»، هذا على الرغم من أنه فقد بعد التأميم أصدقاءه الذين رحلوا نهائياً عن المدينة بعد أن فقد والده وممتلكاته، غير أنه تمسك بالبقاء فى الإسكندرية وغير نشاطه التجارى نهائياً فصنع فى البداية «منفحة» وصار يبيع الجبن للمصانع، وعندما طبق الرئيس السادات نظام الانفتاح فى عام 1975 ذهب للقاهرة وعاد برخصة استيراد ليحول الصيدلية إلى محل لبيع الكيماويات.
«أنا مش متمصر وماحدش يقدر يقول على متمصر» يقول نيقولا بإصرار، ثم يفسر: «متمصر يعنى أنت واحد واخد بوية على وشك، وأنا ما عنديش بوية فى وشى، أنا بوية مصرى». تظهر نبرة الحنين واضحة فى حديث نيقولا عن الإسكندرية القديمة فيقول «كنت تلاقى عربيات المطافى بتلف تغسل الشوارع لغاية الساعة 3 بالليل، والصبح لو واحد ماشى ووقعت منه سيجارة ع الأرض يوطى ياخدها ويكملها من كتر نضافة الشوارع». ليست النظافة فقط، هناك أيضاً التزام الناس بعبور الشوارع، كان الجميع على حد تعبير نيقولا «بيمشوا ع الرصيف»، وفى وقت افتتاح أى فيلم جديد فى السينما صباح الاثنين من كل أسبوع كان لزاماً على الجميع أن يدخلوا بالبذلة وربطة العنق «لو مش لابس كرافته ما تدخلش».
من الممكن اعتبار نيقولا شاهد عيان على فترة عاشتها مدينة الإسكندرية، يقول عنها المثقفون أنها ولَّت ولن تعود، تلك الفترة التى خلدها الروائى الشهير لورانس داريل فى رباعيته التى لا تقل عنه شهرة، مدينة متعددة الأجناس والألوان، يعيش فيها اليونانيون إلى جوار الإيطاليين والأرمن والمصريين بجميع أطيافهم، يهود ومسيحيون ومسلمون. باشوات وأفندية وعمال وأولاد بلد، مثقفون وأنصاف متعلمين وأميون لا يعرفون فرقاً بين الألف وكوز الذرة.
يقول الروائى «إبراهيم عبدالمجيد» إن الإسكندرية منذ نشأتها فتحت أبوابها لليونانيين، الذين عاشوا فيها جنباً إلى جنب مع المصريين والأجناس الأخرى من الأجانب، غير أنهم اختفوا فى العصور الوسطى، وعندما شق «محمد على» فى عام 1822 ترعة المحمودية التى ربطت بين النيل والمدينة، انتعشت الإسكندرية، وعاد إليها اليونانيون مرة أخرى والقبارصة والإيطاليون وكل الذين كانوا مضطهدين فى العالم سواء أرمن أو يهود، هؤلاء كما يقول «عبد المجيد» حصل عدد منهم على الجنسية المصرية طبقاً للقوانين المعمول بها فى ذلك الوقت، أما الذين لم يحصلوا على الجنسية فقد خرجوا من المدينة بعد حرب 1956، لكن العدد الأكبر خرج عقب قرارات التأميم، فورث المصريون أماكنهم، وهو الشىء الذى يصفه «عبدالمجيد» بـ«الجيد»، غير أنه يعود فيقول إنه أفقد المدينة روح التسامح التى نشأت عليها.
نفس الشيء يؤكده الدكتور محمد راشد أستاذ الجغرافيا بكلية الآداب جامعة الإسكندرية، فيقول إن التنوع السكانى الذى تمتعت به مدينة الإسكندرية جاء محصلة نتاج زمنى، فالمدينة التى أسسها الإسكندر المقدونى فى عام 332 قبل الميلاد كانت أول مدينة يتخذها الحكام عاصمة تخرج عن نطاق الوادى والدلتا، كما كانت أول مدينة تشهد عولمة مبكرة منذ نشأتها، وبالأخص كما يقول راشد أثناء الفترة البطلمية، فقد سكن المدينة فى تلك الفترة فئات متعددة تنتمى لقارات العالم المعروفة آنذاك، أوروبا وأفريقيا وآسيا، واستطاعت الأجناس المختلفة أن تصنع أول نسيج عالمى. يكفى أنه كان يمكن للإنسان أن يستمع فى حى الميدان الذى يقابله اليوم ميدان محطة الرمل وميدان المنشية إلى ما يقرب من 40 لساناً مختلفاً، ويتساءل راشد كيف استطاعت الإسكندرية أن تدير المجتمعات المختلفة، وكيف استطاع من يقطنون المدينة أن يتقبلوا ذلك الخليط بكل أبعاده بما فى ذلك ممارسة الشعائر الدينية لكل فئة بمنتهى الحرية؟ الإجابة يصوغها راشد فى كلمة واحدة وهى «النظام» الذى فرض على كل طائفة أو فئة أن تنتظم فى حى خاص بها، فعلى سبيل المثال كان الحى اليهودى يقع بجوار القصر الملكى وهى المنطقة التى يشغلها حالياً حى الشاطبى على كورنيش مدينة الإسكندرية.
يعبر «راشد» بسرعة على تاريخ مصر فى الفترة الرومانية، وما تلاها من دخول المسيحية الإسكندرية وانتشارها بها وما واجهه معتنقوها من اضطهاد الرومان، قبل أن يصل لبداية دخول العرب مصر، فيقول إنه مثبوت تاريخياً أن رهبان وادى النطرون خرجوا جميعاً لاستقبال عمرو بن العاص عندما دخل مصر، وهو ما عكس تسامحاً كانت المدينة تنعم به، واستمر مع استقرار العرب فى مصر، وتحول عدد من المصريين للدين الإسلامى، وحتى ثورة الأقباط التى قامت بعد دخول العرب إلى مصر وكانت الإسكندرية مركزها، لم يكن مبعثها، كما يقول «راشد»، دينيا بقدر ما كان اقتصادياً عندما أتاح الحكام للعرب الاشتغال بالزراعة فوجد الأقباط أنفسهم فى وضع منافسة مع العرب على لقمة العيش، الأمر الذى استفزهم وألجأهم للثورة.
ومع مرور الزمن تغير تركيب المدينة السكانى، كما يواصل راشد، فخرج الأجانب وزادت هجرة الريفيين للمدينة، الذين سكنوا بدورهم الأطراف وراحوا يقيمون مجتمعات قائمة بذاتها تجذب كل ما هو فقير كالمغناطيس، وتولدت مشكلات من نوعية الجهل والبطالة أدت بدورها إلى اضطراب فى فهم الدين وممارسته، وهو ما قاد المدينة فى النهاية للحال التى تعيش عليها الآن.
يفصل الكاتب «جلال عامر» ما طرحه الدكتور «محمد راشد» أكثر فيقول إن سبب تحول مدينة الإسكندرية من تسامحها إلى ما هى عليه الآن جاء بسبب استيلاء الجماعات السلفية على المدينة، فى وقت كانت فيه الدولة مشغولة بمقاومة «الإخوان المسلمين» لأنهم طلاب كراسى وحكم، أما السلفيون فهم ليسوا طلاب سلطة، كما تعتقد الدولة، ولذلك فقد غضت الطرف عنهم وتركتهم يستولون على مصر بشكل عام والإسكندرية بشكل خاص، وينشرون أفكارهم التى يرجع إليها عامر «خراب المجتمع»، ويدلل على ذلك بمنشورات اعتاد السلفيون توزيعها على السكان تطلب منهم عدم الاحتفال بشم النسيم، وتنهاهم عن معايدة إخوانهم من المسيحيين، ومشاطرتهم أحزانهم وأفراحهم، وأصبح كل ما يأتى عبر البحر المتوسط حراماً، فى حين أن كل ما يأتى عبر البحر الأحمر حلال، وفى النهاية جاءت الخاتمة بمظاهرات علنية انطلقوا فيها عقب صلاة الجمعة من كل أسبوع، موجهة ضد المسيحيين تحت سمع الدولة وبصرها.
على أن الدكتور أحمد عتمان، أستاذ الأدب اليونانى بجامعة القاهرة، لا يرى أن المشكلة تقتصر على الإسكندرية فقط، وإنما تمتد إلى مصر كلها، ولا يراها مشكلة تسامح أو استيعاب، للآخر، وإنما مشكلات اجتماعية وسياسية واقتصادية ألقت بظلالها على حياة المصريين، وحولتهم من سكان معتادين على الحياة فى بلد يتمتع بالتعددية الثقافية، إلى بلد لا يحتمل فيه الناس أنفسهم، أو بالمعنى البلدى «خلقهم ضيق»، رغم أن الإسكندرية مثلاً تمتعت على مدار تاريخها بجاليات أجنبية يونانية وإيطالية، عكست وجودها على العمارة الموجودة هناك والتى يمكن مشاهدتها حتى الآن.
ويواصل «عتمان» قائلاً إن التحول ضرب مصر كلها، وانتشر ما يسميه «التشدد الدينى لدى المسلمين والمسيحيين» الذى يوجزه فى «مغالاة فى التدين»، و«مغالاة فى التمسك بالرموز الدينية»، مع ابتعاد تام عن جوهر الدين عند الطرفين.