تعبير دارج يردده المصريون فى حياتهم يومياً عشرات المرات، خاصة فى أوضاعنا المزرية مصريا وعربيا ولعل اختيار محمود الكردوسى هذا التعبير «عيشة تقرف» عنواناً لكتابه لهو مغامرة فى حد ذاته، لكنه اختيار محكم فى ذات الوقت، أما كونه مغامرة، فلأنه قد لا يمثل إغراءً لقارئ «مش ناقص قرف» لأن الكتاب سيعيد طرح ما يلقاه القارئ فى حياته يوميا، غير أن غواية العنوان من شأنها أن تشكل جذبا فى نفس الوقت لأن الكتابة عمقت هذه الغواية، حيث القراءة فاهمة وعميقة وجاذبة.
الكتاب صادر عن دار «هلا» للنشر والتوزيع وقد عمد الكردوسى لتصنيف مقالاته فى فصول، لكل فصل شأن مختلف يغنيه، وكتابات الكردوسى تدلنا على حالة الكتابة لأنه كاتب مزاجى لا تقول كتاباته غير ما يتفق مع حالته، ولذا فإن كتاباته من لحم الحى، لا تكذب ولا تتجمل، بل إنها فضائحية بذكاء، حتى إنه فى غير مقال له لا يجد غضاضة فى تعرية شؤونه الخاصة، فليس هناك فاصل بين حالته أثناء الكتابة، وكتابته أثناء الحالة، كما أن مقالات كل فصل وعنوان كل فصل تجمل هذه الحالة تحت عنوان جامع لمتن ما يتضمنه من مقالات ولنتأمل عناوين بعض الفصول التسعة التى يتضمنها الكتاب مثل: «الصعيد مات»، «السيدة التى كادت تدخل السجن بدسيسة من حفيدها.. هى أمى و.. «تحية» أختى: .. وأنا الذى شالته صغيراً على باطها «ويا له من عنوان يشى بنصف ما جاء تحته و«الصحافة فين.. ولذلك فإن معظم غالبية البعض» وهو عنوان مفارق يشى بالسخرية السوداء التى يكتب بها الكردوسى عن كواليس بلاط صاحبة الجلالة، دون تجمل أو تزلف، ثم «قلب نظام الحكم.. كل الطرق تؤدى إلى «جمال».. «عبدالناصر» ويا له من تضليل بليغ فى مقابل ضلال سياسى فاضح، ثم «الباشمواطن».. إذا الشعب يوماً أراد الحياة .. إذا و«بلا عرب.. بلا نيلة.. أنا بكره إسرائيل والعرب أيضاً» ثم «خذونى إلى بيسان.. فى رثاء سيدة العرب الأولى والأخيرة» ويضم هذا الفصل الهمين الفلسطينى واللبنانى، وما بين اللغة الأدبية الحريفة واللغة الصحفية الحصيفة المغسولة من زخارفها وتأنقها مع تضمينات من بلاغة العامية جاءت لغة الكردوسى خليطا ساحرا بين نثريات محمود درويش وبلاغة الفلاح الفصيح وعبارات ذكية بارقة ذات نفس شعرى تتصيد التعبير المستعصى، يكتب الكردوسى فصوله الدافقة، بحيث لا يجب أن تمضى الكتابة على (المازورة) المستقرة زعماً لقداستها، لأن الكتابة لدى الكردوسى. «أنوثة عقل.. يخونها ولا يخاف». من بعض ما نقرأ فى كتاب الكردوسى: «سيناريو انتحار»، وفيه يكتب عن شؤون الذات وعن اليوم الذى انتهى لتوه، حيث درب نفسه على دواء «أن يسكت بنظام ويتكلم بفوضى». وتحت عنوان «عن أبى فأنا سره» يتحدث الكردوسى فى مراوحة سياسية إنسانية عن الأب الروحى لجيله «عبدالناصر يخطب، عبدالناصر يتحدث، عبدالناصر يبحث، وصورته تنكفئ قليلا فوق رأس ناظر المدرسة وكانت الأصوات تندلع فى الفناء «تحيط الجمهورية العربية عاش الرئيس عبدالناصر حينما كان رزقنا حلالا وعشقنا حلالا وخوفنا حلالا وغناؤنا حلالاً كل شىء فى حياتنا كان حلالا طيباً لأن أبانا يحبنا ويحرسنا، ويعطف علينا».
ولا ينسى الكردوسى أيضاً أن يكتب عن الشأن العربى كما فعل على سبيل المثال فى مقال «خذونى إلى بيسان»، حيث الوضع الفلسطينى لدى محمود ليس أحادى البعد، ولكنه تقريباً ضارب فى لحمه ونخاعه وتحت عنوان «إنها حرب إجابات جاهزة» يقدم الكردوسى قراءة مستفيضة وتحليلية للمأزق الفلسطينى واللبنانى وتحت عنوان «وينكم يا عرب» نقرأ تجليات الكردوسى للمأزق الفلسطينى مستضيئا ومشحونا بمشاهد مأساوية للجزيرة، حيث غزة التى تقع على مسافة صحراء قلقة من عواصم العرب، يقول الكردوسى عن ضحايا العدوان الإسرائيلى على غزة: «يموتون أحياء وأنا هنا أستدفئ بصورهم وهم يموتون، ولأول مرة أشعر بأن الكتابة تافهة وأننا معشر الكتاب لا نساوى ثمن لفة شاش حول جرح طفل فلسطينى، «يجلس الواحد منا وراء مكتب فخم أو على أريكة وثيرة فى بيته، أو فى صحبة شلة مصالح ويعوج فمه بجملة أو جملتين، بينما عداد الجرحى والقتلى يعد، كنت أعتقد أن الكتابة كسل نسميه عقلانية وتواطؤ على الواقع نسميه ترفعا ووساطة بين جبروت الحاكم وقلة حيلة المحكوم نسميها رسالة وكان قلبى يحدثنى بأن ثمة يوم سيأتى ونتعرى وقد أتى، لقد خلق الله اليهود شتاتا وشراذم، إنما فلسطين دولة سافرة برأس وجسم وروح وإرادة دولة بماض مشرف، ومستقبل مطمئن، الحاضر محتل؟ ليكن فإن ستين عاما ليست أكثر من عمر عجوز ولدت فى حيفا وها هى فى غزة تشد لحافا قديما على أحفادها لتحميهم من الـ( إف-16) وتصرخ: وينكم يا عرب، ملعون أبوالعرب يا سيدة العرب الأولى، جرحكم المفتوح منذ ستين عاما هو أشرف وأقدس من حياتنا تلك ومن تنظيرنا فى الغرف المغلقة، ومن دعائنا على حكامنا وصبرنا على خيبتنا».