واسينى الأعرج، كاتب ذاع صيته جزائرياً وعربياً ليحتل مكانة مرموقة يكتب بالعربية والفرنسية ويعمل دائماً ضد المواقف الشمولية، من أهم أعماله كتاب الأمير وروايته «الليلة السابعة بعد الألف» وعمله الأحدث «البيت الأندلسى» التقيت الأعرج عبر الإنترنت وكان الحوار التالى:
■ فى البداية نريد أن نعرف ما تعليقك على خروج روايتك «البيت الأندلسى» من المنافسة فى القائمة القصيرة للبوكر العربية؟
- «البوكر» جائزة من الجوائز العربية المهمة ولكنها ليست كل شىء، ولا الوحيدة فى هذا السياق، تقدم جهدا جميلا على الرغم مما يمكن أن يقال للكتاب. أما رأيى، بصراحة فلا تعليق لى. هناك لجنة مكونة من مجموعة أفراد، أى مجموعة أذواق، وارتأوا أن هناك نصوصا أخرى تستحق اهتماماً أكثر، لا يشغلنى ذلك ولا أتوقف عنده. لهم آراؤهم وهذا حقهم، وللقارئ أيضا رأيه، وهذا أيضا حقه. بصراحة أكثر، لا أعتقد أن البوكر ستضيف لى اليوم شيئا مهما ولكنها سند كبير للعمل الأدبى، ولهذا أقول ربما كانت رواية «البيت الأندلسى» ضحية نجاحها المبكر، ليس إشكالا، لأن حركة النص طيبة وأصبح مرئيا.
■ وما تقييمك للنصوص المتبقية؟
- النصوص المتبقية فى القائمة القصيرة مهمة، على الأقل تلك التى قرأتها كرواية «صائد اليرقات» لتاج السر المتميزة فى قوتها وموضوعها، وسبق أن قرأت له «عطر فرنسى» وهو وريث حقيقى للطيب صالح، و«معذبتى» و«القوس والفراشة» من المغرب جيدتان وتستحقان أن تكونا فى القائمة القصيرة، ورواية «بروكلين هايتس» للمصرية ميرال الطحاوى هى رواية تجسد قوة الإنسان على مقاومة الانهيار وليست نص الهجرة كما سماها بعض النقاد، فقط لأن أحداثها تدور فى ضاحية نيويورك الجنوبية، الرواية إنسانية بامتيازو لأنها تدور فى الداخل أكثر مما تدور بروكلين. ثم إن رواية رجاء عالم عالية القيمة وتحتاج إلى قراءة عميقة من طرف اللجنة تتجاوز السطح. النصوص المرشحة تعطى صورة إيجابية عن حالة الرواية العربية اليوم.
■ فى روايتك الأخيرة «البيت الأندلسى» ثمة تشاؤم من المستقبل يلحظه القارئ، وكأن الخراب عند العرب وبلدك الجزائر سيأتى لا محالة.. لما هذا التشاؤم المفرط؟ وهل استرجاعك للتاريخ فى الرواية هو اختباء خلفه أم محاولة لفهم الحاضر؟
- التفاؤل والتشاؤم هما حالتان فرديتان من الناحية التقييمية، على الأقل، فنجد من يوافقنا أو من يخالفنا فى الرؤية. هذا ليس إشكالا. لكن قراءة بسيطة تستنجد بالحاضر وبآلياته العلمية والتاريخ، تقودنا إلى هذه الحالة من الانكسار. طبعا الرواية ليست شيئا مهما فى التقييم التاريخى أو الاقتصادى ولكنها يمكن أن تشكل صرخة بالنسبة للضمير الجمعى، الذى تصنعه مختلف القيم بما فيها الثقافة. من هذا الباب تشكل «البيت الأندلسى» قراءة فنية وأدبية لحالة لا تمس الجزائر وحدها ولكن الوطن العربى فى عمومه. أسئلة لم تحسم أبدا، وهى عميقة لا مشكلات الحداثة ولا مشكلات التطور ولا مشكلات الهوية. المسرح أمامنا قاس ولكننا لا نراه أو لا نريد رؤيته. انظر العراق والتمزقات؟ انظر السودان وهو يتهيأ لانفجار قاس؟ وما يحاك للجزائر ومصر وليبيا وغيرها قادم؟ إيقاظ النعرات القبلية والدينية الخفية فى بلدان الخليج؟ مشكلة اليمن؟ انظر الأنظمة التوريثية فى كل الوطن العربى تقريبا، حتى أصبحنا فى مواجهة جملكيات، أى جمهوريات ومملكات غريبة؟ هناك حالة شبيهة بتقسيمات سايكس بيكو تلوح فى الأفق المظلم؟ ولهذا «البيت الأندلسى» لم تقل أكثر من هذا الكسر. ربما كان مصدر حب القراء لها هو صراحتها الجارحة. ليس تشاؤما بقدر ما هو رؤية روائية لحالة كثيرة التعقيد من الصعب فهمها خارج رؤيتها الكلية التى تحاول الرواية أن تحيط بها.
■ لكن العودة للتاريخ قد تمثل لك مأزقا كبيرا لتعاملك مع وثائق وحقائق وأنت تكتب المتخيل فكيف ستحوّل الواقعى إلى روائى ومتخيّل دون أن تمسّ مصداقيته؟
- معك حق، لعبة التاريخ فى أفقه الأدبى معقدة، إذ لم نملك الوسيلة المؤهلة فى مدارات الرواية أولا يمكننا أن نسقط فى سهولة استعادة التاريخ، والخلل المصاحب لهذا النوع من الكتابات هو أن الروائى كثيرا ما ينسى وظيفته الجوهرية ويغرق فى التفاصيل التاريخية التى لا يدرك، جوهريا، نظامها وسيرورتها، لأنه بكل بساطة ليس مؤرخا ولا كاتب سير. هذا النوع من الممارسة يقلل من فاعلية النص الروائى المنجز، إذ يضعه على حافة لا تدخل فى تخصصه المعنى أولا وأخيرا بالأدب. ليست فقط المسؤولية والنتائج المترتبة على ذلك هى الصعبة ولكن أيضا النوع نفسه، إذ يوضع فى حالة إحراج ويفقد تعريفه الخلاصى الواقع بين التاريخ والمتخيل.
■ لك تجربتان فى الكتابة عن القضية الفلسطينية كروايتك «سوناتا لأشباح القدس»، وروايتك «سراب الشرق»، التى ترجمت إلى خمس لغات حتى قبل صدورها.. لماذا اخترت الاشتغال على موضوع القضية الفلسطينية؟ وهل هى محاولة للاقتراب من القارئ العربى أم هى خصائص المرحلة الراهنة وما يعيشه العالم العربى من أحداث؟
- أنا ابن هذه الأمة وأنتسب لها لغويا وحضاريا وأريد أن أفهم ما يحدث اليوم من انهيارات، التى أجد بعض تفسيراتها فى حاضرنا الذى يكرر التاريخ بغباوة أحيانا دون محاولة للتجاوز. لقد دمرت اللحمة العربية عندما تم تمزيق بلاد الشام، وفى عصرنا انهارت إمكانات التحرر العربى، عندما تم تحييد مصر وسوريا. لست من أنصار الحروب الدائمة، التى لا جدوى أحيانا من ورائها ونحتاج دائما فى لحظة من اللحظات التاريخية إلى التوقف والمحاولة، ولكن بأى ثمن؟ هذا هو السؤال؟ ماذا عن فلسطين اليوم؟ رواياتى لا توفر الحلول وليس هذا انشغالها أبدا ولكنها محاولة للفهم الذى ربما لا يوفره التاريخ دائما وتوفره الرواية، من حيث هى أفق إنسانى يمر عبر الصورة التى تنشئها اللغة، الناس يقرأون هذا الجنس كثيرا أكثر مما يقرأون التاريخ؟
■ تكتب بالعربية والفرنسية ولديك أعمال تُدرّس اليوم فى العديد من الحلقات العلمية وفى الكثير من الجامعات العربية كروايتك «نوار اللوز»، وتكتسب أعمالك رواجاً كبيراً فى البلاد الفرانكفونية والعرب معاً، فهل يكسب أديب من إبداعه؟ وما تقديرك لعلاقة الكاتب بالناشر؟
- مازلت إلى اليوم كاتبا هاويا، أى أننى لم أدخل دائرة الاحترافية، وهى مسألة خيارية مهمة لكى لا أكون تحت تأثير سلطان الناشر الغربى أو العربى، على الرغم من أن علاقتى مع ناشرى فى غاية المحبة والطيبة. دار «آكت سود» التى تطبع كتبى واحدة من كبرى الدور الفرنسية، ودار «الآداب» ودار «الجمل» فى بيروت لا تحتاجان إلى تعريف، لكن الحرية هى أهم خيار عند الكاتب حتى قبل الكتابة ذاتها، إذ لا يمكن تصور كتابة حيوية دون الحرية. وعلينا طبعا أن نقبل بدفع الثمن. رفضت أن أعيش من كتاباتى على الرغم من دخلها إلىَّ، بالإضافة إلى ذلك الجوائز يسمحان لى ببعض العيش الجيد، ولكننى رفضت ذلك وكل ما دخلنى من الكتابة منحته لمن هو بحاجة ماسة إليه كالمرضى بالسرطان، على العموم مردود كتاباتى جيد والمبيعات ممتازة ولكن الأهم من كل ذلك أننى لست معنيا به من الناحية المالية ومعنى أكثر بما يأتينى من عملى فى جامعتى باريس والجزائر، لأن به أعيش.
■ يشكل «أدب المحنة» معظم الكتابات التى تكتب منذ فترة التسعينيات إلى الآن فى الجزائر كالإبداع المصرى الذى لايزال يكتب عن النكسة والانتصار.. ألم يحن الوقت لتناول جديد أم مازلنا سنكتب عن ذلك إلى مالا نهاية؟
- الآلام تبقى زمنا طويلا فى نفوس الناس، لأن الجرح لا يندمل بسهولة. أنا مع هذه التسمية «أدب المحنة»، أحسن من «أدب الأزمة» لأن كل أدب يمكنه أن يكون أدب أزمة معينة. لكن المحنة أكثر وأعم. فقد مست البلاد والناس وأخطر من ذلك دمرت دواخلهم وهزت الاستقرار فى العمق. والكتابات الخاصة بالوضع الجزائرى كثيرة وهذا جيد على الأقل من أجل الذاكرة، لكن النصوص الاستثنائية التى استطاعت أن تعبر عن الحالة بشكل جمالى مهمة وقليلة، حيث اختلطت عمليات التجنيس بالكثير منها، فتحولت إلى مجرد سير شخصية أو وجهات نظر، ولسنا مضطرين لأن نرى مائة رواية ناجحة لكى نقول إن الأدب عبرة عن فترة معينة. تكفينا رواية أو روايتان عظيمتان وملحميتان لتغطية الحقبة وتحويلها إلى ذاكرة جمعية. «الحرب والسلام» لتولستوى كافية لمعرفة انهيار النابليونية فى روسيا، فى البحث عن الزمن الضائع لمارسيل بروست وعوليس تعبر عن انهيار القيم الكتابية للقرن التاسع عشر وظهور قيم أخرى بديلة أكثر ارتباطا بمأساة الإنسان الأوروبى وخيباته فى البدائل البورجوازية المفترضة.
■ ماذا عن آخر النصوص التى تشتغلون عليها الآن ولم تخرج بعد إلى القارئ؟
- هناك الجزء الثانى من رواية «الأمير عبدالقادر» وهى بعنوان شهوة المنتهى، والتى صممت أن أختم بها سنة 2011، أتمنى أن أتوصل إلى فعل ذلك. كما أشتغل على رواية صغيرة عنوانها المؤقت: أصابع لوليتا حول القيم الإنسانية المتحولة، الحب، الثقة، المنفى، الخوف. وهناك نص ثالث لايزال فى طور التكوين وبدأت ملامحه تتضح عن العنصرية الخطيرة، التى بدأت تترسخ فى أوروبا الشمالية التى كانت بعيدة عن هذا، وكانت من الدول الحاضنة للآخر بسهولة ودون أى تعقيدات.