x

وحيد حامد يروى قصة شاب صنعته أزمة الوطن فصنع ثورته: ثورة توفيق الكبش «الحلقة الأخيرة»

الأربعاء 31-08-2011 16:34 | كتب: وحيد حامد |

ملخص ما نشر

توفيق عادل عبدالفتاح الكبش.. شاب مجتهد وذكى، أصابه لقب عائلته «الكبش» بكثير من السخط والعزلة. كان حلم الحياة بالنسبة له التخرج فى كلية الحقوق والهجرة لإحدى دول أوروبا، رافضاً الانضمام لأى من الحزب الوطنى أو جماعة الإخوان المسلمين. وبينما ينتظر «توفيق» فرصة السفر تجهض وفاة والده حلمه الكبير، ليبقى فى مصر من أجل رعاية والدته. عمل فى عدد من مكاتب جهابذة المحاماة، ومنذ اشترى «لاب توب»، اختطف عالم الإنترنت شخصيته إلى منطقة أكثر انفتاحاً ووعياً.. وجرأة. وبعد مشاركة قوية ورائعة من جانب الكبش فى ثورة 25 يناير، عاد المحارب إلى استراحة منزله، ليفاجأ بأن وجوده فى الميدان حجب عنه الكثير من المعلومات والأحداث المهمة.

مرة أخرى، عاد «الكبش» إلى الميدان بعد نجاح الثورة ليجد «الغنائم» قد تم توزيعها، دون أن يحصل على نصيبه، فاعترض بشدة ودخل فى معركة كلامية مع رفاق الأمس، انتهت بانسحابه من ميدان التحرير وموافقته على العودة للعمل فى مكتب المحامى الشهير، الذى يدافع عن عدد من رموز الفساد فى النظام المنحل. وذهب إلى أحد الفاسدين الكبار فى محبسه، عارضا عليه تحريره من السجن والقضايا المتهم فيها، مقابل الحصول على أتعاب 3 مليارات جنيه، وأن يكون ذلك عن طريق القيام بـ«ثورة جديدة».

(12)

استمر محمود شبارة فى تناول طعامه على مهل وهو يفكر فى المسألة كلها..

والفلوس هتوزعها إزاى..؟ عينى واللا نقدى..؟

كاش.. الشخص المعدم لما يمسك عشرة جنيه فى إيده كأنه ماسك سيف.. ما بالك لما يمسك ورقتين كل واحدة بمية.

واستمر الجدل والنقاش بينهما وأخبره شبارة بأنه فى حاجة إلى مساندة إعلامية فلم يهتم «الكبش» بهذه المسألة، فهو يرى أن القنوات والصحف الخاصة تعمل تلقائيا، لأنها تبحث عن مادة ساخنة، وهى دائما مع الرايجة فستكون مع الثورة الجديدة فى حالة تقدمها وصلابتها.. أما التليفزيون الرسمى فقد وضع خطة بسيطة للاستيلاء عليه بالكامل، حيث سيدفع بمندوب يصرف للعاملين رواتبهم المتأخرة منذ شهور، وبالتالى يكون المبنى تحت إمرته.. وكذلك سيكون الأمر فى مجمع التحرير وكل الوزارات الكائنة بالقرب من ميدان التحرير، ويبدو أن محمود شبارة قد وجد ما يرضيه فسأله:

هيه الثورة دى.. هتكون فى القاهرة بس..؟

فأخبره بأنها سوف تنطلق أيضا من عدة محافظات مع القاهرة فى آن واحد، وسيكون انطلاقها فى غاية السهولة ودون أى مقاومة من الشرطة حيث إن الشرطة الآن هى الأخت الحنون، وهى تعلم أن التصدى لأى مظاهرة هو الهلاك بعينه وليس هناك ضابط واحد فى الداخلية كلها مستعد أن يقول «بخ» لأى متظاهر أو حرامى.. وازدادت مساحة السرور عند شبارة فقال له:

واحنا معاك بالمال والرجال.

فصرخ «الكبش» كأنه أصيب بلدغة عقرب:

لا.. لا.. أنا مش عاوز ألوث الثورة بتاعتى.

وبهت شبارة..

إنت اللى طلبت التمويل واحنا بنقدم لك أى مساعدات تانية.

قال توفيق الكبش بكل حزم وحسم:

الفلوس دى مش من جيب أشرف بخيت واللا الشياطين اللى معاه.. دى فلوسنا فى الأصل لازم تعرف كده.. عارف واللا مش عارف يا أستاذ شبارة..؟

هز شبارة رأسه وهمس فى استسلام.

عارف.

فاستطرد توفيق قائلا وكانت نبرة صوته حادة وخشنة:

وعارف طبعا إن الغاية تبرر الوسيلة.. وأنا ما عنديش مانع أحارب العدو بسلاحه.. علشان كده الثورة بتاعتى ثورة وطنية.. لكن يكون فى علمك كل أصحابك الموجودين فى مزرعة طرة مفيش حد منهم هيفلت من المحاكمة.

ظل محمود شبارة يتأمله صامتا ثم بادره بالسؤال المهم:

وإنت عاوز الفلوس فى إيدك.. واللا يهمك إنها توصل لإيد الناس؟

توصل لإيد الناس طبعا.

عندك خطة..؟

فى اللحظة دى لا.. لكن..

قاطعه شبارة قائلا:

لكن إيه..؟ سيب المهمة دى علينا.. احنا أصحاب خبرة فى المسائل اللى زى دى.. وإن شاء الله الناس تبقى مبسوطة ومرضية.

ولأن لهجة «شبارة» لم تعجبه فقد أحس بالريبة والقلق فصرخ:

أنا ثائر يا أستاذ.. أنا لا يمكن أكون متآمراً.

فين هيه المؤامرة..؟ عاوز الفلوس.. اعتبرها تحت أمرك.. لكن توزيعها من غير ما يتقبض عليك مسألة فى غاية الصعوبة.. ركز إنت فى الثورة.. والأمور المالية والإدارية احنا هنتولى أمرها..

ولأنه يدرك أن توزيع المال على الجموع التى سوف تحتشد مسألة فى غاية الصعوبة وقد تنسف الثورة وتحولها إلى مؤامرة لها من يمولها ويشعل نارها لضرب الثورة التى ولدت ولم تنهض على قدميها وكأنها أصيبت بشلل الأطفال.. وعليه قبل بعرض محمود شبارة الذى طلب الحساب ولكن توفيق أصر على أن يدفع الفاتورة وكان له ما أراد..

(13)

كان يعرف قوة الشائعة جيدا، وأن الشائعة إذا كانت توافق هوى الناس، وفى مضمونها مكسب لهم، فإنها تصبح أقوى من أى حقيقة حتى لو كانت الشائعة لا يقبلها العقل وتفتقر إلى المنطق السليم الذى يمنحها المصداقية، وعندما انتشرت شائعة غامضة مجهولة المصدر تحكى حكاية هى أقرب إلى الخيال بأن رجلا طيبا وصالحا اسمه الشيخ عبدالفتاح وهو ليس شيخا بالمعنى المهنى لكنه اكتسب هذه الصفة بفضل تقواه وصلاحه، أما عن عمله فهو فلاح فقير ومعدم لكنه قانع بما أراد له المولى عز وجل، ولأنه يعمل فلاحا أجيرا فى مزرعة أحد الوزراء المشلوحين والذى يقطن سجن مزرعة طرة فى الوقت الحالى.. وأثناء عمله اليومى وبينما يضرب الأرض بفأسه اصطدمت بجسم معدنى خرج منه الشرر، وعندما تفقد هذا الرجل الطيب هذا الجسم المعدنى وجد أنه حلقة قوية أسفلها غطاء من الخشب المبطن بالصاج فأدرك أنه غطاء سرداب، رفع الغطاء وحده بقوة من عند الله فإذا به يفضى إلى حجرة مقامة تحت الأرض عندما تفقدها عرف أنها «مخزن فلوس» فقد شاهد رزم الدولارات مرصوصة إلى جوار حائط من الأرض إلى السقف وبعرض متر.. والحائط الثانى رزم اليورو بنفس الكمية تقريبا والحائط الثالث للجنيه الإنجليزى.. أيضا وجد بعض الصناديق بها دينارات كويتية وريالات سعودية ودراهم إماراتية... فدهش الرجل الطيب مما شاهد ورأى واحتار فى كيفية التصرف فى هذا الأمر الخطير.. هل يبلغ الحكومة؟ وبعد لحظة تفكير همس لنفسه.. وهيه فين الحكومة..؟ ولأنه رجل طيب وصالح قرر أن يتولى الأمر بنفسه ويوزع هذه الأموال على الفقراء والمحتاجين وأنه إن شاء الله سيقوم بالتوزيع بعد أن يبيع الدولارات.. وأن ميدان التحرير سيكون مكان التوزيع بإذن الله.. هكذا كانت الشائعة وهكذا تروى وتنتقل مع الإضافات والتحبيشات من مكان إلى مكان ومن مقهى إلى مقهى، وشهدت شركات التليفونات نشاطا ملحوظا وزيادة فى الإيرادات.. أيضا ميدان التحرير بدأ يشهد وجوها جديدة لم يشهدها من قبل.. وأغلب هؤلاء كان يقطع الميدان ذهابا وإيابا فلا أحد يعرف من أى طريق سيأتى الشيخ عبدالفتاح إلى الميدان.. والكل يهتف فى داخله «إنت فين يا شيخ عبدالفتاح» وبالفعل حدث انتعاش حقيقى فى شركات الصرافة حيث رصد البنك المركزى المصرى حركة نشطة لاستبدال الدولار بالجنيه المصرى.. وقبل غروب الشمس بساعة دخلت الميدان سيارة تاكسى تحمل لوحات 25 يناير وكانت السيارة خالية من الركاب.. السائق فقط الذى نزل منها وفتح الحقيبة وأخرج رزمة من النقود المصرية فئة المائتى جنيه وبمجرد أن رفعها فى يده أقبل نحوه كل الخلق فى الميدان، كان يعطى لكل واحد ورقة ومن يحاول العودة للأخذ مرة ثانية ينهره بعنف.. خمس دقايق فقط استمر فى عملية التوزيع ثم اندفع نحو مقدمة السيارة حيث انطلق بها فى سرعة واحتراف.. وأصبحت الشائعة حقيقة.. وأصبح الشيخ عبدالفتاح حديث الميدان وبطله الغائب الحاضر..

أما توفيق الكبش فقد دعا من خلال الموقع الذى أنشأه إلى الخروج الحاشد يوم الجمعة بعد القادم تحت مسمى «جمعة عودةالروح» قال فيه إن الثورة قد فقدت روحها تماما وأصبحت تعيش أيامها الأخيرة بعد أن خنقتها حكومة باردة وعاجزة ومجلس فرض على نفسه العزلة وترك البلد سداح مداح كأنها ليست بلده بل تركها فريسة للضباع والذئاب والثعالب وجوارح الطير.. وحتى الحشرات التى وجدت طعامها فى جسد الوطن الجريح.. وشبه الثورة بسمكة «همنجواى» فى رواية العجوز والبحر، حيث إن الصياد العجوز تمكن من صيد أكبر سمكة بعد صبر وكفاح ونضال مرير ولكن أسماك القرش هاجمت السمكة فأكلتها ونهشت لحمها.. ولكنه عاد بالهيكل العظمى للسمكة.. والثورة الآن هيكل عظمى..!! وقال إن آمال الشعب العريضة قد تبددت، ودعا إلى وحدة الأمة وتطهيرها من العملاء والفاسدين والطامعين فيها كما نادى برحيل كل فاشل ومقصر وعاجز إلى آخره.. ولأن كل ما طرحه يتفق مع رغبات الأغلبية فهو يدعو إلى نصرة الوطن والثورة فى مجمل دعوته، وهذا أمر لا يجد رفضا إلا من أعداء الوطن.. وكثرت المناقشات والحوارات على المواقع وبرامج التوك شو وصفحات الجرائد وكانت المحصلة النهائية هى القبول بالخروج من أجل عودة الروح وتلبية دعوة الكبش.. ولكن الأمور تطورت إلى الأحسن وبشكل غير متوقع عندما نشر أحد المواقع المجهولة بيانا موجزا من الفلاح عبدالفتاح يعلن فيه تأييده الكامل لدعوة توفيق الكبش وأنه سوف يشارك فى هذه الجمعة المباركة بإذن الله.. وعلى إثر انتقال هذا الخبر من صفحات الفيس بوك إلى الصحف الورقية وأخبار البرامج السياسية حتى صار حديث الناس، وبدأ الزحف المبكر على الميدان وإقامة الخيام وتنافس الباعة الجائلون فى حجز الأماكن المميزة لعربات الكشرى والكبدة والممبار والعرقسوس والسوبيا.. ولأن الكبش قام بجولة سريعة وخاطفة فى الميدان والشوارع المحيطة وتأكد من بوادرالنجاح هذه فقد شمله السرور والحبور واتصل بمحمود شبارة هاتفيا معربا عن سروره وتقديره لهذا الذكاء المفرط الذى أفرز هذه الخطة الجهنمية لتوزيع الأموال على الناس دون أن تثير الشبهات.. وقال إن فكرة الفلاح عبدالفتاح فكرة عبقرية لا يقدر عليها إلا صاحب خيال مشع.. كل هذا وشبارة يسمع صامتا ثم قال له فى هدوء مصحوب بالبرود:

إنت بتتكلم فى إيه بالظبط..؟ مين الفلاح عبدالفتاح وبيعمل إيه..؟

وكانت الصدمة والتى أعقبها لقاء عاجل وحاسم.. قال شبارة بكل صدق وهو يحلف بالطلاق إنه لا علاقة له بالأموال التى نزلت التحرير وإنه حتى هذه اللحظة لم يخرج مليما واحدا.. هنا صرخ توفيق الكبش:

يا خبر إسود.. دا فيه ناس تانية غيرنا..؟ يا خبر إسود دا احنا بقينا مطية لناس ما نعرفهمش.. بس أنا عرفت إن فيه دولارات كتير اتغيرت..؟

بعد رشفة قوية من فنجان القهوة قال شبارة:

دولارات تبقى جاية من الخليج.. إحنا فلوسنا جاية من أوروبا.. يورو.. ولسه ما غيرناش ولا يورو واحد..

وأدرك الكبش أنه سيكون كبش فداء حقيقياً لأمر دبره وعمل على تنفيذه من أجل وطن خرج من نقرة ليقع فى دحديره، ولكن هذه المفاجأة أربكت كل الخطط التى أعدها بكل عناية وصبر.. وجد نفسه حائرا تائها وعقله الذى كان نشطا توقف فجأة وكأن كل خلاياه قد احترقت.. وأخذته قدماه دون أن يدرى نحو مكتب الأستاذ الدكتور ناجى مخلوف أو الذئب العجوز كما كان يراه..

مالك يا توفيق.. وشك مخطوف كده ليه..؟ شكلك عاِملْ عَمْلة..؟

هكذا قال له الذئب العجوز عندما رآه وكأنه ضغط على زر جهاز تسجيل روى توفيق كل شىء وكشف لأستاذه عن الخطة التى فى داخل رأسه وكل الأمور التى كان يسعى إليها.. ابتسم الذئب العجوز وطلب القهوة وقال لتوفيق:

إنت فى ورطة كبيرة..

وظل صامتا إلى أن انتهى من فنجان القهوة تماما، واستطرد موضحا له المآخذ المهلكة التى وقع فيها وأن ذكاءه الحاد قد غدر به وأحدث شرخا كبيرا فى نواياه وأهدافه الوطنية بأن استعان بأموال من زعماء النظام السابق الذين نزل عليهم غضب الله وغضب الناس وهو بهذا الفعل قد دفع بنفسه وبإرادته ليكون أحد الفلول البارزين مهما كان قدر حسن النية لديه.. ولأن جمهور الثورة ساخن دائما وفى حالة تحفز مستمر فإنه لن يقبل منه أى دفاع.. وأوضح له أن الثورات النقية تأخذ المولى عز وجل قدوة لها فهو طيب لا يقبل إلا الطيب.. ثم همس باسما:

قد كده إنت أهبل علشان تصدق أن بتوع النظام الراحل هيساعدوك علشان تعمل ثورة بجد ولحساب كل الناس..؟ ثورتك كانت هتكون لحسابهم وغصب عنك..!!

وهنا هتف توفيق الكبش:

الحمد لله أنها وقفت قبل ما تبتدى..

دى ابتدت خلاص ولزقت فيك واسمك عليها..

برضه الحمد لله اللى ما دفعوش فلوس..

أيوه.. بس فيه فلوس من جهات تانية كتير..

وعندما سأل توفيق الذئب العجوز عن هذه الجهات انفجر الأخير دافعا بكل ما فى داخله إلى الخارج، إغفال إسرائيل وإهمال شأنها واعتبارها بعيدة عما يجرى ويدور فى مصر غباء ما بعده غباء.. وإخوتك العرب فى الشمال والجنوب منهم من يحب مصر فى أسوأ أحوالها على اعتبار أنها الزعيمة الأبدية للأمة العربية كلها بفضل حضارتها وعلم أبنائها وثقافة شعبها وقوة تدينها وأصالة أهلها، هى التى كانت تقدم لهم جميعا المنح والمساعدات وهم يسعون وراء قطعان الإبل والأغنام والماعز فى السهول الجافة والخشنة.. وعندما تفجرت آبار النفط وطالهم الثراء الفاحش ظنوا أن أصحاب الثروة هم الأولى بالزعامة وصارت الأخت الكبرى تمد يدها ومن يمد يده يفقد عزته وكبرياءه ومن خطايا النظام السابق أنه كان هزيلا ومتهافتا ومتوسلا وأحط من شأنه وجرنا معه.. الطامعون فى زعامة الأمة يا ولدى يريدون مصر غارقة فى الوحل.. مضطربة.. غير آمنة.. حزينة.. كسيرة ومحبطة وخاضعة، لهذا كله أموالهم تأتى بواسطة الشيخ الفلاح عبدالفتاح أو غيره.. إيران.. إيران يا ولدى.. الإمبراطورية الفارسية القديمة.. إيران الحالمة بالزعامة والسيطرة والإمساك بكل أمور المنطقة فى قبضتها تعلم علم اليقين أن مصر هى مصدر قوة العالم العربى كله حتى وهى تعانى فى المحنة، وعليه فإن أموالها ودعاتها ومحبيها متواجدون فى هذه الثورة.. أما النموذج الذى يلقى رواجا فهو النظام التركى.. تركيا يا ولدى.. الإمبراطورية العثمانية.. تركيا التى خضعت مصر لحكم سلاطينها زمنا طويلا.. تركيا الحالمة هى الأخرى بعودة الإمبراطورية العثمانية من جديد.. وتتسابق مع إيران أيهما يحقق حلمه ويقضى على الآخر.. تركيا لا تهمل شأن مصر لأنها ستكون أساس الإمبراطورية الجديدة خاصة أن فى مصر من يروج لذلك ومن قبل قيام الثورة.. وتعال نذهب إلى أوكار السباع والضباع والفهود دول الغرب جميعا أتظنهم ساهون أو غافلون.. مصر الآن يا ولدى فريسة تطاردها الوحوش على الأرض والجوارح من السماء.. و كل هؤلاء عندهم عشرات الفلاح عبدالفتاح..!! وللأسف يا ولدى هناك بعض المصريين على أتم الاستعداد لأكل أرض مصر ذاتها لو أن التراب يؤكل، ولهذا كله يجد الطامحون فى مصر من يعاونهم.. هتف توفيق الكبش:

والحل يا أستاذ..؟

تأمله الذئب العجوز، وقال باسما:

تعود الثورة كما كانت فى أيامها الأولى، أيام الاستبسال والتوحد والإيمان بالوطن والعزم على البطش بالرعونة والديكتاتورية والتسلط.. الأيام المجيدة النقية التى أطاحت بجبل القهر، أيام الثورة الأولى قبل أن تذهب إلى مجلس عسكرى يلتزم الصمت ويترك البلاد سداح مداح ويأتى بحكومة باردة على رأسها رجل كل مهمته والتى حقق فيها أعظم النجاحات صب الماء المثلج على رأس الثورة.. الأيام الأولى قبل أن يتم اختراق الثورة من كل أصحاب المصالح.. وقبل أن ينسلخ بعض أبنائها عنها ويتاجروا بها ومن لم يتاجر تسول..

قال الذئب العجوز:

هل تستطيع أن تعود بالثورة إلى أيامها الأولى..؟

صمت طويلا.. طويلا.. ثم همس..

إن شاء الله.. إن شاء الله يا أستاذ..

ابتسم الأستاذ قائلا..

فى هذه الحالة.. يسقط حسابك عن كل خطاياك..

هى أخطاء نقص الخبرة لا نقص الوطنية..

قال له الذئب العجوز منهيا النقاش..

انطلق..

(14)

كان الميدان مختلفا وحاشدا وصاخبا، ولكنه لم يكن أبدا مثل أيام الثورة وهى عذراء.. فى هذه الأيام كان يرى الجماهير على اختلاف أنواعها فى حالة تناغم وتجانس وكأنهم عيدان قمح فى حقل واسع ممتد.. أما الآن ورغم هذا التكدس البشرى فإن الوجوه التى يراها ليست كسنابل القمح فى الحقل الواسع الممتد.. لماذا يحس أنه داخل أرض محتلة بنبات الحلفا الشيطانى بأوراقه الحادة والجارحة، هؤلاء البشر الذين يراهم الآن غير البشر الذين رآهم فى الأيام الأولى.. حتى الذين يعرفهم حق المعرفة من هذه الأيام يحس أنهم تغيروا أو اختلفوا.. هناك أشياء لا يعلمها قد تبخرت تماما.. وأشياء أخرى لا يعلمها قد حلت محلها.. وها هو الميدان حافل باللافتات التى تحمل المطالب والشعارات.. لفتت نظره لافتة كتب عليها «ارحلوا.. قبل أن ترحلوا..» ولافتة أخرى كتب عليها «مصر.. لا تستحق منكم كل هذا الأذى» وتفقّد المنصات العديدة وكل منصة تنادى بعكس المنصة التى قبلها فزاد إيمانه بأهمية وجود ثورة شعبية حقيقية لها هدف قومى واحد حتى طارت الرؤوس من أجل ذلك.. رؤوس الخونة والمزايدين والمتاجرين والأفاقين والمنافقين أصحاب القدرة الفائقة على تلويث ماء النهر وحرق الزرع الأخضر وخنق الثورة بحبل من مسد.

كان قد وصل إلى المنصة التى أعدت له باعتباره الداعى إلى هذه الجمعة الحاسمة.. وهمس لنفسه لو أن خمسة عشر فى المائة فقط من كل هؤلاء قلبهم على مصر حقا وصدقا فإنها سوف تكون بخير.. وصعد أولى درجات المنصة حتى وصل إلى المكان الذى يراه فيه الجميع وحيث الميكروفون .. نفخ فيه حتى يطمئن إلى سلامة الصوت وسريانه وهتف بكل ما يملك من قوة بصوت مشبع بالصدق والعشق والوطنية.. يا أهل مصر.. يا أهل مصر.. وفى الثالثة قال يا أهل.. ثم سكت إلى الأبد.. انطلقت رصاصة غادرة وجدت طريقها إلى رأسه مباشرة.. لم يحدث صوت الرصاصة أى ضجة أو فرقعة.. ربما لأن صوت الناس كان هو الأقوى.. وربما أن السلاح المستعمل كان كاتما للصوت.. لم يفطن إلى فداحة الأمر وعمق المأساة إلا القريبون جدا من المنصة، وصعد أكثر من رجل فى لهفة وكلهم اتجه إلى صاحب الجسد الراقد على أرضية المنصة غارقا فى دمائه.. إلا شخصاً واحداً توجه مباشرة إلى الميكروفون وهتف..

كلنا فداء للثورة.. نموت جميعا وتحيا الثورة

كان هذا الرجل هو محمود شبارة!!!

تمت بحمد الله

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية