مشاهد الغضب بعد جريمة الإسكندرية بما فيها من احتقان وتوتر تلتها بعد أيام، ومع الاحتفال بعيد الميلاد، مشاهد استعراض المحبة والوئام ونفي وجود أي احتقان أو توتر.
صور الجريمة وردود الأفعال الغاضبة يمكن استعراضها باعتبارها صور لواقع أزمة طائفية تعيشها مصر، وهو ما يحدث بالفعل من قوى اجتماعية متنوعة، دينية أو علمانية. بينما الصور الأخرى يمكن استعراضها باعتبارها صورا للواقع المستقر لا الحدث الاستثنائي البشع الخارج عن السياق، وهو ما أرادته قوى مختلفة على رأسها السلطة.
الصور المتتالية التي يتنقل الإعلام بينها بإيقاع متفاوت، كلها صحيحة بقدر ما وخادعة بقدر ما. الجدل حول كيفية تكوين صورة للواقع عبر هذه الصور قد يكون مدخلا مناسبا لتناول علاقة المجتمع وقواه وحركاته بالإعلام في هذه اللحظة المشحونة.
«من الطبيعي أن تخدعنا الصور المختلفة وتعطينا انطباعات متناقضة لأن بعض ظواهرنا الاجتماعية ومنها الطائفية لا زالت مثل العشوائيات، لا خرائط لها ولذلك نتحرك فيها بغير هدى» هكذا يرى د.أحمد عبد الله، الطبيب النفسي والأكاديمي بجامعة الزقازيق، ويضيف مؤكدا وجهة نظره: «معظم ردود الأفعال الآن تؤكد ذلك. للأسف قطاع كبير من النخبة انشغل بلوم الدولة وجلدها. مفهوم أن هناك جانباً سياسياً لكل شيء ويمكن أن ننتقد الأداء العام للدولة ونحمّل غياب الديمقراطية بعض المسئولية، ولكن نوعية الحادث نقلت التحدي للمستوى المجتمعي. لا توجد دولة قادرة على تأمين حركة الملايين، هذا فوق قدرة أي سلطة».
هناك ردود أفعال أخرى اختارت نقد المجتمع بدرجات متفاوتة، وتحدثت عن الروح الطائفية التي تهدده وتجلياتها في بعض مظاهر التدين. وفي المقابل اختار البعض الدفاع عن المجتمع وإبراز أوجه السماحة وتجليات التسامح. ينتقد د.أحمد عبد الله إصدار الأحكام العامة الأحادية على المجتمع، طائفي متعصب أو متسامح : «الجانب الآخر من الخداع البصري هو حالة إدمان الأحكام المطلقة التي تعبر عن صورة واحدة أو جانب واحد، بينما التركيب والتعقيد هو سمة النفس الإنسانية وبالتبعية المجتمعات. أحيانا ما يلجأ الإعلام لرصد التركيب والتعقيد باعتباره تناقض أو ازدواجية وتصرخ العناوين: امسك شيزوفرينيا! من الطبيعي أن تظهر في المجتمع مظاهر للتعصب وأخرى للتسامح وبدلا من إطلاق الأحكام العامة يجب مناقشة تفصيلات تتعلق بتطورات الوضع في هذا الاتجاه أو ذاك».
هناك الكثير مما يمكن مناقشته: ما الذي حدث لمبادرات المواطنة ومواجهة التمييز الديني التي نشطت في السنوات الأخيرة في مواجهة الشحن الطائفي، ما هو تأثير خروج الإخوان بلا مكاسب من انتخابات البرلمان وما يمثله من إحباط للروح الإصلاحية و«الاعتدال» النسبي وسط التيار الإسلامي. ما هو الوزن النسبي لتحركات القوى الكبرى في الساحة السياسية والشارع: السلطة والكنيسة والإخوان والتيارات السلفية، وما هو وزن القوى المتمردة والجديدة والهامشية الناقدة التي تعارض هذه القوى من داخلها أو خارجها وتقاومها أو تدفعها للتغيير. وما هو دور الإعلام في رسم صورة قريبة لما يحدث وتطوراته يمكن اعتبارها خريطة للحركة تبعا لها.
«أعتقد أن الإعلام يستخدم المجتمع أكثر مما يستخدم المجتمع الإعلام» يشرح د.أحمد عبد الله رؤيته: «السنوات القليلة الماضية شهد الإعلام بمختلف أشكاله انفتاحا كما وكيفا. وتوازي ذلك مع توقعات بحراك سياسي واجتماعي، ورسم الناس صور لتغيير بناء على ذلك ولكن الحقيقة أن التغيير الذي حدث كان في نطاق مختلف. التغيير يعتمد على بنى (جمع بنية) أو هياكل ومؤسسات تقوم بعميات محددة. وكفاءة هذه الهياكل وعملياتها هي التي تحكم حجم التغير الحادث وليس صورها المتداولة والتوقعات التابعة لهذه الصور».
يرى د.أحمد عبد الله أن الإعلام المنتعش لم يجد في القوى الاجتماعية الحيوية الكافية، ولذلك فهو يبحث دائما عن «فقرات» جذابة يتم إبرازها وتضخيمها. يضرب مثلا بحركة 6إبريل التي أنعشت التوقعات وعلقت الآمال على حركة الشباب خارج الأحزاب والمؤسسات، ولكنها في النهاية فعلت بمقدار ما تسمح به هيكلها وبنيتها وانهار فائض التوقعات المبني على «الصورة» الضخمة الجذابة.
ولأن الإعلام صار أكثر حيوية من القوى الاجتماعية فإن طبيعة الاهتمام المتزايد بالمجال العام من قبل المواطنين تمثلت في المزيد من استهلاك الإعلام لأنه الدورة الأكثر بروزا وكفاءة. الطبيعة الإعلامية غلبت أيضا على الناشطين، فصار التدوين واستخدام الميديا الجديدة والشبكات الاجتماعية المجال الأبرز للنشاط. فأنتج ذلك حالة كثيفة من فضح سلبيات السلطة والمجتمع، بينما كانت كفاءتهم في الساحة السياسية أقل. وبالتوازي مع ذلك كانت مشاركة المواطنين في الساحة السياسية والاجتماعية أضعف بكثير بالمقارنة باهتمامهم بالإعلام.
يفسر د.أحمد عبد الله ذلك بعدم وجود هياكل حية حقيقية نشطة بالتوازي مع الإعلام تحمل الأفكار وتحولها إلى عمليات: «يحق لنا أن نفرح بالتقدم في حرية الإعلام وارتفاع أسقف التعبير. ولكن في المقابل الإعلام هو ترس في ماكينة، بقية التروس هي وجود حالة ديمقراطية حقيقية فيها قوى سياسية فعالة وحركات اجتماعية وناخبين إيجابيين، قضاء حر وبحث علمي وجامعات متفاعلة مع المجتمع لا منغلقة على نفسها . لو أن التروس الأخرى لا تعمل بكفاءة ولا تتفاعل مع الإعلام ولا تستخدمه. يقتصر دور الإعلام إلى مجرد فضح الواقع وكشف السلبيات للاستهلاك العام الذي لا يجد أمامه أفقا للتحرك أو للفعل بناء على ذلك».