وقف حاملاً بيده اليمنى حقيبة صغيرة سوداء اللون، وبالأخرى يطرق باب السفارة المصرية فى العاصمة الليبية «طرابلس» يفتح باب السفارة ويستقبله شاب ثلاثينى، مرتدياً قميصاً رمادياً وبنطالاً «جينز» أزرق، عرف الطارق نفسه بأنه مصرى يريد العودة إلى أرض الوطن سريعاً لطمأنه والدته عليه.
أخبره الشاب الثلاثينى بأن هناك باخرة ستغادر ميناء طرابلس البحرى الخميس تابعة لمنظمة الهجرة الدولية لإجلاء ما يقرب من ألف مصرى، وكل ما يريده هو إثبات هويته، هز الطارق الذى بدا على وجهه إعياء شديد رأسه وعندما استدار وهم بالذهاب سأله الشاب الثلاثينى قائلاً: «أنت عندك مكان تبات فيه؟» أجابه الطارق بالنفى فطلب منه المبيت فى السفارة حتى وصول الباخرة قائلاً: «ماتخافش إنت بتكلم محمد وجدى زين، القائم بأعمال السفارة المصرية».
دخل الشاب المصرى إلى مكتب القائم بالأعمال، وبمجرد جلوسه عاد بظهره إلى الخلف فى وضع الاسترخاء وبدأ فى سرد تفاصيل قصته بعد اندلاع أحداث الثورة الليبية فى بنغازى ووصول شرارتها إلى مدينة مصراتة، مقر إقامته وعمله، قائلاً: «أنا كنت واحد من ضمن 6 مصريين محتجزين فى سجن جديد بطرابلس، ولما الثوار دخلوا طرابلس هربت أنا وأصحابى».
حكاية محمد تعود إلى الثالث من شهر مارس الماضى عندما قرر مغادرة مصراتة والتوجه إلى طرابلس للاتصال بالسفارة المصرية والعودة إلى مصر وبمجرد وصول محمد إلى بوابة الدافنية بمصراتة استوقفته الكتائب الأمنية التابعة لمعمر القذافى، وقامت بتفتيشه تفتيشاً ذاتياً لتصل أيديهم إلى مذكرات الشاب المصرى، خاصة أمام عبارة «يسقط زين العابدين.. يسقط مبارك.. يسقط القذافى».
يصمت محمد قليلاً قبل أن يضيف: «هذه العبارة كلفتنى الكثير فبعد إلقاء القبض على تم ترحيلى إلى جهاز البحث الجنائى، ومنه إلى سجن عين زارة بطرابلس، ووضعى فى مكان لا أعرفه داخل قفص حديدى وكأننى حيوان قرابة الأسبوع، وبعدها تم تحويلى إلى النيابة العامة ومعى ملف كبير يحتوى على قرابة الـ20 اتهاماً، أبرزها المساس بشخصية القائد».
لم يعلم محمد أن عقوبته الإعدام إلا بعد وصوله سجن جديدة واحتجازه مع غيره من الأشخاص فى الزنازين المخصصة للإعدام ليقضى هو وغيره من العشرات قرابة الـ5 أشهر كل دقيقة فيها تساوى بالنسبة له بداية حياة جديدة، بحسب قوله.
«محمد» لا يدرى ما الذنب الذى اقترفه الشباب المصرى لكى يتم الزج بهم فى السجون الليبية ومعاملتهم معاملة سيئة وإهانتهم لفظياً وجسدياً لمجرد كونهم مصريين، لدرجة وصلت إلى قتل بعضهم داخل السجون من شدة التعذيب، بالإضافة إلى اعتقال بعضهم من منازلهم فى مدينة مصراتة متسائلاً: «ليه المصريين يتعمل فيهم كده؟ دا عدد المصريين اللى ماتوا فى ليبيا أكتر من عدد المصريين اللى ماتوا فى ثورة 25 يناير».
حكاية الشاب استقبلها محمد وجدى، القائم بأعمال السفارة، بإنصات شديد، خاصة أن السفارة المصرية كانت تتلقى بلاغات من مصريين تفيد بوجود زملاء لهم فى عدة سجون مثل الطويشة وجديدة وبوسليم، وفقاً لكلامه، وأن الخارجية المصرية فى عهد السفير نبيل العربى، والسفير الحالى أعطوا أهمية كبيرة وأولوية لهذا الملف وأنه بعد اتصالات عديدة بنظام القذافى تم الإفراج عن 33 مصرياً.
«وجدى» قال إن ظروف البلاد الحالية كان لها انعكاس كبير على تحركات السفارة المصرية وإجلاء رعاياها.. ففى بداية الأحداث كان ترحيل المصريين يتم عبر مطار طرابلس، ووصل عدد الرحلات وقتها إلى 22 رحلة يومياً، يتراوح عدد ركابها ما بين 250 و280 راكباً لتنجح «الخارجية» فى إجلاء قرابة 35 ألف مصرى خلال أسبوع.
أضاف أنه بعد فرض الحظر الجوى تمت الاستعانة بالطريق البحرى من خلال التنسيق مع الحكومة التركية لإجلاء 1200 مصرى، وبعد توقف حركة الملاحة لم يكن أمام السفارة سوى الطريق البرى عن طريق معبر رأس جديد. حيث يتم نقلهم من طرابلس إلى منطقة الغيران، ومنها إلى رأس جدير حيث مخيمات اللاجئين ثم السفر عبر دولة تونس.
عدم وجود جواز سفر أو تأشيرة دخول البلاد من أكثر المشاكل التى تواجه السفارة فى إجلاء المصريين، بحسب قول وجدى، فمئات المصريين العاملين فى ليبيا لا تعلم عنهم السفارة شيئاً، لأنهم لم يسجلوا أسماءهم بمجرد دخولهم ليبيا، وهو الأمر الذى يصعّب من وجود حصر دقيق بأعداد المصريين.
أحداث الثورة الليبية سجلت ملامحها على مبنى السفارة حيث تعرض زجاج الطابق العلوى وجهاز استقبال البث الفضائى لرصاصات الاشتباكات الواقعة بين الثوار وكتائب القذافى وتحديداً يوم دخول الثوار طرابلس فى 20 و21 أغسطس الجارى، وهو ما علق عليه وجدى قائلاً: «المبنى المجاور للسفارة كان يحتوى على صورة كبيرة للقذافى، ويضم قناصين تابعين له ورغم أن أغلب السفارات أغلقت أبوابها. إلا أن السفارة المصرية مازالت مفتوحة لتقديم خدماتها للمصريين، خاصة فى عمليات الإجلاء».