طرح الروائي المصري محمد ناجي نصا أدبيا جديدا مثيرا للتأمل أطلق عليه وصف «نثر مشعور» في تسمية بدت وكأنها سخرية من الجدل الثقافي المتجدد حول ما يسمى «قصيدة النثر» وإن كان النص يبقي على السؤال الأساسي عن الجوهر الفارق بين الشعر والنثر.
وفي حفل توقيع كتابه الجديد «تسابيح النسيان» الاثنين قدم ناجي الكتاب قائلا «هذا نثر ابن نثر ابن نثر. وهو أيضا ذهني مباشر ليس فيه من اصطناع الخيال إلا قليلا مما يحلو به النثر. ولكن كان لابد من تقطيع السطور على نحو خاص لإيضاح المعاني وفي ذلك ما يثير شبهة الشعر. وأظن أن ذلك خرج بالنص إلى ما يمكن تسميته النثر المشعور. وأصارحكم أنني أرتاح لهذه التسمية تجنبا للمشاكل».
لكن الكاتب الصحفي والناقد أحمد الخميسي وصف الكتاب بأنه رواية شعرية في حين وصفه نبيل عبد الفتاح الباحث بمركز الأهرام بأنه متتالية شعرية سردية وديوان له مذاق شعري متفرد.
بدأ ناجي حياته الأدبية شاعرا نشرت قصائده فى السبعينيات فى مجلات المجلة والفكر المعاصر المصريتين والآداب البيروتية والأقلام العراقية. ثم انتقل للرواية فكتب «خافية قمر» و«لحن الصباح» و«مقامات عربية» و«العايقة بنت الزين» و«رجل أبله.. امرأة تافهة» و«الأفندى» و«ليلة سفر».
وقال ناجي الذي يسافر بعد أيام إلى فرنسا حيث ستجرى له جراحة زرع كبد لوكالة «رويترز» إن نثره المشعور هذا هو جزء من نص كبير اختار له عنوانا مبدئيا هو «يوميات الغياب» ويسجل فيه تأملاته فى فترة المرض.
ويقول »هذا الجزء يتناول حياتي العاطفية. فحتى الآلام تصبح فرصة لتعميق المعرفة ومكاشفة الذات».
ويقول ناجي في مقطع من «تسابيح النسيان» حمل اسم «تسابيح الغفران» «سيكون دائما على الشاطيء. هنا أسفل الرصيف المقابل لبيتك. رجل وحيد يطأطئ بمحبة. يمكنك أن ترى هذيان صورته فى الماء. باحثا عن ملامحك فى خيالات النهر. ألف باب وألف بستان. من ذا الذي يجرؤ أن يقرع بوابات تلك الأعماق .. ليطلب الغفران؟».
وذكر أنه رفض محاولات دار العين التي نشرت كتابه الجديد لإقناعه بوضع كلمة «شعر» على الغلاف ليتجنب التورط في النقاش الثقافي الدائر عربيا حول قصيدة النثر.
ويدور في الأوساط الثقافية العربية حوار صاخب حول قصيدة النثر التي يرى أنصارها وكتابها أن خصومهم ضد التجديد وأنهم يتمسكون بتقاليد أدبية تسد طرق تطور الآداء الشعري وعقدوا ملتقيات أدبية عديدة للإنتصار لاتجاهم منها ملتقيان في مصر الأول في مارس 2009 والثاني في فبراير 2010 وملتقيان في ديسمبر 2010 في مدينتي قفصة التونسية والبصرة العراقية.
وقال ناجي لرويترز «هو نقاش مضجر وعقيم. فخصوم قصيدة النثر يتجاهلون في الغالب جوهر الشعر ويحصرون المسألة في مجرد الإيقاع الصوتي. وأنصارها يتشبثون بكلمة (شعر) وكأن هذه الكلمة في حد ذاتها تضع الكاتب فى منزلة عالية حتى وإن كان ما يكتبه تافها».
وأضاف «على الكاتب أن يترك أمر التصنيف للأكاديميين، وأن يدرك أن سطرا من النثر المحكم قد يفوق دواوين شعرية كاملة»
ورد ناجي على سؤال عما إذا كان كتابه الجديد عودة للشعر وتحولا عن الرواية قائلا إنه لا يهتم بالتصنيف ولا يعنيه إن كان ما يكتبه رواية أم شعرا «الكتابة هى الكتابة أيا كان تصنيفها وشكلها. لكنني انتهيت فعلا من كتابة رواية باسم (قيس ونيللي) ويبدو أنه ما زال أمامي الكثير في مجال الرواية».
وأضاف «مشروعي الروائي مازال ممتدا ويركز على الأحداث والرؤى التى عاشها جيلي بما فيها من انكسارات ومن أحلام».
وتابع متحدثا عن روايته المنشورة (خافية قمر) «تناولت الصراع الذي نعيشه بين الماضي والمستقبل و(لحن الصباح) صورت الأبطال العائدين من الحروب لتهزمهم تفاصيل الحياة اليومية القاسية. (مقامات عربية) جدارية فانتازية تسخر من واقعنا العربي. (العايقة بنت الزين) جدارية اجتماعية صورت ضياع الرؤى وانكسار الأحلام. (رجل أبله.. امرأة تافهة) تناولت انعدام التواصل. (الأفندي) رصدت ضياع دور الطبقة الوسطى. ( ليلة سفر) تناولت الشقاق الذى يدب بين عناصر الأمة».
ووصف الخميسي كتاب ناجي الجديد بأنه «نص نادر، توافرت فيه عوامل عديدة؛ اللحظة الخاصة التي كتب فيها، لحظة إنسان مريض يشعر بالخطر وهو ما يعطي الإنسان درجة عالية من الشفافية. كما توافرت فيه خبرة الشعر وخبرة الرواية».
أما عبد الفتاح المتحدث الآخر في الندوة فقال «نحن إزاء متتالية سردية شعرية في نشيد ملحمي يتكون من ثماني حركات في سيمفونية مواجهة النسيان... لغة متفردة تعيد بعض البهاء الشعري، وتضفي عليه بعض الغنائية والبوح وبعض الملحمية ومناجاة فلسفية وروحية وجسدية متداخلة أعطت هذا الديوان مذاقا شعريا متفردا».
ورغم جو المرح الذي أشاعه ناجي في الندوة والمداعبات حول قصيدة النثر فإن كتاب «تسابيح النسيان» مثقل بحزن يبدو أحيانا وكأنه رثاء لكاتبه فكتب تحت عنوان «الذين أنا» يقول «أولئك الذين يشرئبون من عيوني، ليتأملوا بدموعهم، العالم الذي يخلو منهم، هل أستطيع أن أدعوهم إلى موكبي الأخير؟ فليرفرفوا فوق جثتي كبيارق مجد ولتدق الطبول أمامي عاليا.. لتعلن أنهم كانوا هنا دائما (في القلب دائما) وليتقدمني المنشدون بأهازيج تقول: ذهب ولم يعد».
وقال عبد الفتاح إن ناجي كان على مدى سنوات طويلة يتعمد إخفاء الشاعر بداخله. وفسر ناجي بعده عن الشعر وتحوله إلى الرواية قائلا لرويترز «إن العالم يعيش فترة غنية بالتحولات الدرامية على مستوى السياسة والاجتماع والفكر، وهى تحولات لا تتسع لها القصيدة العربية الغنائية الطابع بقدر ما تتسع لها الرواية».
والنص الجديد مليء بلقطات درامية مثل ذلك الجزء الذى حمل اسم «أباطرة النسيان» ويرصد فيه نشوء وسقوط الإمبراطوريات بفعل عوامل قدرية تشبه قدر الموت الذي يحكم مصائر البشر.
«ثمة شمس تغرب وتشرق من نفس النقطة تقريبا.. تضئ وتطفئ.. وثمة دائما مدينة تتجهّز للنسيان... بالتأكيد كان دائما فى البلاط.. عرّاف يحاول ببسالة أن يغير مسارات النجوم.. أو يتلمس بشارة فى مداراتها المعتمة.. بينما الإمبراطور الأخير المطرز بالهزائم.. يتثاءب فى سراويله الداخلية ليصرفه من مجلسه.. يدرك ببصيرة إلهية أن الأمور استقرت على هذا النحو».
واختار ناجي لتجسيد هذا المشهد لقطتين تاريخيتين الأولى فى القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية الرومانية الشرقية عام 1453 ميلادية والإمبراطور قسطنطين يتأهب لحرب مع العثمانيين وهو يدرك أن امبراطوريته إلى زوال لأن قادته فسدوا وأصبح «ذهبهم أحب إليهم من مجد المسيح».
واللقطة الثانية في المدينة نفسها لكن بعد قرون وبعد أن صار اسمها إسطنبول وسلطانها عبد الحميد الثاني (1842- 1918) يصارح نفسه بأن عوامل الانحلال نخرت إمبراطوريته ولابد أن تسقط. يقول السلطان «أعرف أن اللعبة أكبر من سيفي .. وأدرك أن رجالي أعدائي .. وقد أكون آخر حبة فى مسبحة السلاطين .. السجدة الأخيرة».
غير أن ما يشغل الكاتب في هذا المقطع ليس انهيار أو صعود الإمبراطوريات وإنما يشغله أمر عاشق يقول عنه «وهناك دائما عاشق يشبهني.. ووجع يشبه وجعي» ذلك العاشق الذي تحرمه الحرب من محبوبته فيدور فى الشوارع مجنونا وهو يصيح بسؤال يقلق الإمبراطور المنتصر «بيدك بنيت.. وبيدك هدمت .. من أنت؟».
ويبدو من سياق النص أن العاشق المجنون لا يقصد الإمبراطور الذي مزقت سيوف جنوده جسد المحبوبة وإنما يقصد تلك القوة القدرية التي تحرك الكون بأسره وبيدها أمر البقاء والفناء. فالسؤال يطارد الإمبراطور حين يشيخ ويدرك أنه مثل غيره من البشر محكوم بالموت رغم أنه صانع النصر العظيم وباني الإمبراطورية.
ويشير عبد الفتاح إلى اتجاه صوفي في كتاب ناجي الجديد فيقول «يحيلك العنوان إلى الصوفية التسبيح والتذكير بالحقيقة الأولى ..حضور للنسيان حضور للعدم للاوجود لغياب لا ذكر له».
ويكتب ناجي «يقولون أنه عمق الأعماق.. هناك حيث كل شيء نغم.. تخلق منه الموجودات والمدركات.. يقولون: هناك شيء يخصك في جوهر المعزوفة .. لكنك لست الوتر ولا الصوت.. نغم يخصك لكنه ليس أنت».
وأعطت بدايات ناجي الشعرية لرواياته مذاقا خاصا لدرجة دفعت ناقدا بارزا هو علاء الديب إلى وصفه بأنه «شاعر الرواية الحديثة». وكتب عنه في صحيفة القاهرة يقول «يشغل مكانا خاصا بين الكتاب. مكانته بين الكلاسيكية والحداثة مصنوعة...بذوقه هو وسحره الخاص الذي يخلط في براعة بين الواقعية الجارحة القوية والشاعرية الأسطورية التي تجعل من الرواية كائنا حيا يتنفس تطارد القارئ خيالاته وأشباحه».
ولاحظ مشاركون في الندوة أن نص «تسابيح النسيان» المفعم بالشعرية استفاد بدوره من تجربة ناجي الروائية فقال الخميسي أن النص في رأيه رواية شعرية سمع فيها صوت الراوي ورأي أطيافا من المجتمع المصري.
ويبدو النص كرواية متماسكة عن علاقته بمحبوبة ويطرح من خلال تلك العلاقة كل تساؤلاته الفكرية وتأملاته فى الحياة والتاريخ والفلسفة والدين فيقول فى مقطع حمل اسم «تسابيح الغفران» «تلك المحبة توجعني.. تجهد أجنحة تتخبط بين الوجوه التي لك.. آه من وجعي.. أتقلب بين مشارقها ومغاربها.. وأحط على كبدي في ختام الطواف لأنبش فيه خرائط عشقك.. يا آه للعشاق الذين كتبوا.. أن يقوم على سفر.. وينام على سفر.. ثم يسقط في آخر العمر خلف المدار.. يا.. آه».