خلف البوابة الحديدية، لمصنع قنا بمدينة قوص حركة العمل تسير بأقل من معدلاتها الطبيعية، ضجيج المعدات والآلات الضخمة ترتفع فى المكان رغم انخفاض معدلات الإنتاج، العمال يجلسون خلف أجهزة إلكترونية وأمام الآلات، ولا تشعر بأن مكان عملهم فى أزمة، هم منفصلون عن الأزمات والأهم لديهم الحفاظ على ما تبقى من «الإنتاج».
مسافة طويلة تقطعها للوصول إلى المبنى الإدارى للمصنع، تتخللها مخلفات التصنيع من زيوت ومواد صناعية كريهة الرائحة، تفترش أرض المصنع بصورة عشوائية، وتتصاعد، عبر فتحات، أدخنة ناتجة من عمليات التصنيع.
هنا وعلى بعد مئات الكيلومترات من العاصمة، أنشئ مصنع قنا لإنتاج الورق، بمدينة قوص بمحافظة قنا، والذى يعد أكبر مصنع فى مصر لصناعة ورق الكتب والكراريس والكشاكيل من مصاصة القصب.
فى عام 1998 كانت البداية لمصنع الورق بقنا، وانتهى بناؤه بعد عامين، ثم بدأ التشغيل التجريبى منذ ذلك الحين وحتى عام 2003، إلى أن بدأ التشغيل الفعلى له فى نفس العام، عقب استلام المعدات والماكينات من الشركات الموردة له من أوروبا.
رصدت «المصرى اليوم»، فى جولة داخل المصنع، للتعرف على طريقة ودورة إنتاج الورق، والمشاكل التى تواجه المصنع، ومدى تأثير زيادة سعر الدولار عليه، فالمصنع تم تصميمه لتصل طاقته الاستيعابية من الإنتاج إلى 120 ألف طن ورق سنوياً، ولم يصل المصنع إلى هذا الحد من الإنتاج إلا مرة واحدة عند بداية تشغيله حوالى 115 ألف طن بسبب وجود مخزون كبير من مصاصة القصب كان قد تم تخزينه فى السنوات السابقة، ولكن إنتاجه حالياً لا يتعدى الـ90 ألف طن، بسبب عدم وجود مصاصة قصب كافية تساعد على زيادة الإنتاج.
ويعتمد المصنع فى مصدره (مصاصة القصب) والتى تعد المادة الخام الرئيسية لصناعة الورق على مصنع سكر قوص، والتى تكفى الكميات التى يتم تحصيلها منه لإنتاج 90 ألف طن ورق فقط، ولا يوجد إمكانية للاستعانة بمصنع آخر فى التوريد، بسبب عدم جدواه الاقتصادية، والتى ستؤثر سلباً على تكلفة المنتج نفسه.
وتعتمد صناعة الورق على مواد خام، وهى مصاصة القصب، وصودا كاوية محلية الصنع، وكلورات صوديوم، وخشب طويل الألياف يتم استيرادها من الخارج، وتبدأ دورة العمل بعملية الغسيل كمرحلة أولى، والتى تكون فيها مصاصة القصب تحتوى على سكريات وصموغ ولجنين وشموع، وألياف وهى مايتم استخلاصه من المصاصة، ويحتاجه المصنع فى صناعة الورق، وتسمى هذه مرحلة الطبخ باستخدام الصودا الكاوية ودرجة بخار عالية، ثم بعد ذلك مرحلة غسيل ثانية، باستخدام مواد تبييضية، للتخلص من الصبغة السوداء التى نتجت من مرحلة الطبخ، ثم مرحلة إضافة الألياف الطويلة من الخشب بنسبة 10%، ثم مرحلة فرد الورق، ثم التجفيف بأطوال وأعراض بناء على طلب العميل وهى المرحلة الأخيرة، وتأخذ هذه الدورة 24 ساعة عمل، ثم بعد ذلك تذهب إلى المطابع.
ويقول المهندس جمال محمود، العضو المنتدب بالمصنع، إن مصر تستهلك 450 ألف طن ورق سنوياً، بمتوسط استهلاك 5 كيلو جرامات للفرد الواحد من الورق، وما يتم إنتاجه فى مصانع الورق فى مصر لا يتخطى 200 ألف طن، ويتم توفير النواقص بالاستيراد من الخارج.
وأضاف «محمود» أنه بسبب ارتفاع سعر الدولار، وصلت أسعار المواد الخام المستعملة فى صناعة الورق إلى زيادة تصل أحيانا إلى 140% من سعرها القديم، سواء كانت مستوردة من الخارج، أو محلية الصنع، فعلى سبيل المثال لب الورق سعره كان 6 آلاف جنيه، والآن وصل إلى 14 ألف جنيه، وكان معفيا من ضريبة المبيعات، وبعدما تم إقرار الضريبة المضافة ارتفع سعره 13% إضافية.
وتابع: «الغاز الطبيعى الذى نعتمد عليه فى تشغيل المصنع زاد بنسبة 80%، بعدما كانت الوحدة الحرارية البريطانية بـ3 دولارات لكل مليون وحدة، وصلت الآن إلى 5 دولارات، إلى جانب زيادة سعر الدولار نفسه، (وأنا صناعتى كلها بالدولار، والدنيا غليت)».
وعن الزيادة الفعلية لتكلفة طن الورق، يقول العضو المنتدب، إنها وصلت إلى 5 آلاف جنيه فى التكلفة فقط، فبعدما كان سعر الطن 9 آلاف و600 جنيه، وصل إلى 13 ألفا و200 جنيه، تم رفع سعر الطن 3600 جنيه على العميل، والشركة تحملت 1400 خسارة على الطن من موازنتها.
وأكد «محمود» أن مصر بعدما كانت تصدر الورق إلى دول السودان وليبيا وتونس والمغرب، أصبح العجز فيها حوالى 200 ألف طن سنوياً.
وعلى الرغم من ارتفاع سعر المواد الخام وعدم استقرار سعر الدولار، لم يخفض المصنع من إنتاجه ولكنه لحاجة السوق، وموسم الدراسة، وأزمة الورق الموجودة فى مصر، يصارع المصنع كل هذه الأمور للاستمرار، ولكن بعض المعوقات تقف أمامه منها ارتفاع سعر قطع الغيار المستوردة من الخارج، والضرورية لعملية التصنيع، والتى لم يتم شراؤها بسبب الزيادة فى سعرها، إلى جانب المواد الخام المستخدمة فى التصنيع، اضطر المصنع لشرائها بالجنيه المصرى لعدم تمكن البنك الأهلى من توفير العملة لاستخدامها فى الشراء.
ويكمل المهندس جمال محمود حديثه: «لا يوجد دعم من الدولة للمصنع، بالعكس الدولة تزيد من أعباء المصنع، فبعدما كنا ندفع صفر ضرائب على مصاصة القصب باعتبارها مخلص صناعة ليست خاضعة للضريبة، بعد إقرار القيمة المضافة زادت 13%، وهذا عبء على المصنع، وبعد أن كان مصنع السكر يستخدم المصاصة كوقود لصناعته، أصبحت أنا ملزما بدفع قيمة المصاصة للمصنع بأسعار مرتفعة بسبب زيادة أسعار الوقود، وهو الذى أثر على تكلفة المنتج».
واستكمالاً للمشكلات التى تواجه المصنع، يقول العضو المنتدب، إن المصنع فى بداية إنشائه، وباعتباره شركة مساهمة، لم تكف أموال الشركاء لاستكمال بنائه، وتم الحصول على قرض دولارى من البنك الأهلى، بقيمة 137 مليون دولار لاستيراد معدات، وتم سداد جزء منه، ويتبقى 95.5 مليون دولار، ولكن المشكلة تكمن فى أنه بعد تحرير سعر الصرف، وبعد أن أصبح الدولار كل يوم بسعر مختلف، أصبح فارق العملة فقط من سعر الدولار وقت الحصول على القرض وحتى الآن وصل إلى مليار جنيه، ويطلب البنك سدادها بالدولار، وهو ما حمّل المصنع عبئا آخر كبيرا جداً، وهذا قد يؤدى بالمصنع إلى الإغلاق، لأنه طبقاً للقانون إذا تخطت الخسارة 50% من رأس المال، يتم تصفية الشركة وحلها، والمصنع تعدى الـ100% خسائر من قيمة رأس المال بسبب الديون وفروق العملة.
وأشار إلى أن حل هذه الأزمة فى أن يصدر قرار سيادى باعتبار الشركات الحاصلة على قروض دولارية، يتم إرجاء المعالجات الحسابية الخاصة بها، ولا يتم احتساب فروق العملة، لأن البنك لا يمكن له أن يترك فرق العملة، إذا لم يكن هناك قرار سيادى، لإنقاذ الشركات، مشدداً على أن البنك الأهلى قام بالحجز على 400 مليون جنيه رصيد نقدى للشركة، بسبب القرض، ويطالب بباقى المبلغ، على الرغم من أن له 18% أسهم فى المصنع.
ويقول المهندس أحمد حنفى، رئيس الشؤون الهندسية بالمصنع، إن المصنع يواجه مشكلة أخرى وهى مشكلة الصرف الصناعى، فالمصنع منشأ على نهر النيل، ووفقاً للقانون 48 لسنة 1982 يحق له أن يصرف فى نهر النيل، أو أى مجرى مائى، ولكن عينات المياه بالمصنع لم تكن مطابقة للمواصفات، ولن يسمح بالصرف فى النيل، فتم اقتراح إنشاء مشروع صرف صناعى على الظهير الصحراوى «الغابة الشجرية»، على مساحة 1000 فدان، وجارٍ العمل عليه الآن، ولكنه كبد الشركة وحملها عبئاً إضافياً فالمواسير سيتم مدها على طول 18 كيلو مترا، وهى أرض صحراء، فكان الأولى بالدولة أن تعطى الأرض للمصنع مجاناً لأنها تحل مشكلة دولة، ولكننا فوجئنا بالمحافظة تحدد سعر الفدان الواحد بـ 100 ألف جنيه، بما يعنى أن تكلفة الأرض «الألف فدان» تصل إلى 200 مليون جنيه، وهذا تتحمله الشركة فقط.
وأضاف: «كان المصنع يعمل بالمازوت، ووجدنا أن تكلفة العمل بالغاز، وتأثيره الجيد على التصنيع أفضل، فقررنا توصيله من غرب النيل إلى الشرق على حساب الشركة، وهو ما كلفنا 60 مليون جنيه، تحمل المصنع منها 32 مليونا، ومصنع السكر 28 مليونا».
فيما يقول علاء الخطيب رئيس الشؤون المالية والإدارية، إن المصنع به 800 عامل، يعملون بنظام 3 ورديات (8 ساعات)، وعلى الرغم من الديون والضائقة المالية التى يمر بها المصنع، إلا أن المصنع فى حاجة إلى عمالة، بسبب العمالة المحالة للمعاش، والمتوفية، ولكن بسبب وقف التعيينات منذ ثورة يناير، لا يمكن تعيين عامل جديد، ولم يتم الاستغناء عن عامل خلال السنوات الأخيرة.
وأضاف الخطيب: «المصنع خلال العام الماضى 2015 حقق خسارة 86 مليون جنيه، منها 25 مليون مستلزمات صيانة وتجديدات، وباقى المبلغ فرق عملات فى الأسعار، وكل قرش واحد ارتفاع فى الدولار، بيحقق خسارة مليون جنيه، وده كله مؤثر على الصناعة».
وتابع: «صناعة الورق صناعة استراتيجية، وهى مشكلة أكبر من مشكلة نقص السكر فى مصر، لأنه لا يمكن أن تفتح مدرسة بدون ورق، ولا يمكن أن تبدأ دراسة بدون ورق، وبهذا المعدل من الخسارة والديون لن يأتى مستثمر لضخ أموال فى المصنع، لذلك يجب على الدولة التدخل لحماية صناعة الورق فى مصر».
وعن إمكانية إنتاج ورق صحف فى مصر، أكد المهندس جمال محمود، العضو المنتدب للمصنع، أنه يمكن للمعدات والماكينات بالمصنع صناعة ورق الصحف، ولكن المشكلة تكمن فى عدم وجود مصاصة قصب كافية لهذه الصناعة، لأنها تقضى حاجة صناعة ورق الكتب والكراريس والكشاكيل «بالعافية»- على حد قوله.
وقال: «تكنولوجيا صناعة الورق فى مصر تحاكى أرقى الدول، من حيث الجودة والأمن الصناعى، وذلك بدليل التصدير الذى كان موجوداً منذ فترة، ولو المصنع ده اتقفل من حق الدول اللى بره تديك طن الورق مش بـ13 ألف جنيه، وإنما 50 ألفا، وإنت مجبر تاخده لإنك محتاجه». فيما أكد محمود رضوان، صاحب أحد مصانع الورق، أن صناعة الورق فى مصر مهددة بالانهيار التام نتيجة لانخفاض المخزون الاستراتيجى فى ظل القيود التى يفرضها البنك المركزى على الدولار، وصعوبة فتح اعتمادات مستندية للاستيراد، وأن عدداً كبيراً من المطابع أغلق نهائياً، نتيجة لتلك الأزمات.