جلسا والكشافات الكهربائية بين أيديهما فى انتظار «الضى» الذى أصاب المدينة بحالة من الشلل، وجعلها أشبه بمدينة الأشباح، فهذه هى المرة الأولى التى تنقطع فيها الكهرباء عن مدينتهما «طرابلس» لمدة 10 ساعات متواصلة منذ سيطرة الثوار عليها يوم 20 أغسطس الجارى، هكذا قال محمد نبيل، الشاب المصرى الذى يعمل فى أحد الفنادق فى وسط العاصمة «طرابلس» وصديقه الليبى محمد الفزانى مالك الفندق.
«نبيل» يؤكد أن انقطاع الكهرباء أو «الضى» كما يطلق عليه «الليبيون» أمر اعتاده أهالى المدينة منذ انطلاق الشرارة الأولى للثورة فى العاصمة «طرابلس»، ليستخدمه القذافى كوسيلة لإرهاب أهالى المدينة لمنعهم من الخروج والانضمام إلى الثوار ولاستخدامه كغطاء لعملياته العسكرية ضد ثوار المدينة.
لم يكمل «نبيل» كلامه حتى قاطعه «الفزانى» قائلاً: «اعتادنا على انقطاع الكهرباء فى الأشهر الأخيرة لحكم القذافى وكان الناس يستقبلون هذا الأمر بنوع من التخوف فهم لا يدركون ما الذى يدور فى عقله، أما الآن فانقطاع الكهرباء بعد سيطرة الثوار على المدينة يستقبله الأهالى بحالة من الاطمئنان والفرح فهم يثقون بثوار المدينة لأبعد درجة ممكنة».
اختلفت الأسباب وراء انقطاع «الكهرباء» عن المدينة، وفق كلام «نبيل» الذى التقط أطراف الحديث وقال البعض يرجعه إلى ضرب عدد من محطات الكهرباء التى تغذى العاصمة على أيدى «كتائب القذافى» وآخرون يرجحون انقطاع التيار إلى عدم توافر «النفط»، مرجحاً السبب الثانى وهو اختفاء «النفط»، خاصة بعد قيام ثوار مدينة «الزاوية» التى تبعد عن العاصمة 40 كيلو متر من الناحية الغربية بقطع خط إمداد العاصمة بالنفط لقطع الإمدادات عن كتائب القذافى وإصابتهم بحالة من الشلل.
لم يكن انقطاع الكهرباء هى المشكلة الوحيدة التى يعانى منها أهالى المدينة، فانقطاع مياه الشرب دخل يومه الخامس على التوالى، وجميع سكان المدينة يعتمدون على الآبار الموجودة فى المنطقة وتقوم المجالس المحلية التى شكلها الاهالى بعد سيطرة الثوار على المدينة بتعبئتها وتوصيلها إلى المنازل دون مقابل.
كلام «نبيل» و«الفزانى» دفعنا للتجول بين شوارع وأرجاء العاصمة، لرصد ما ردده على أرض الواقع، لتقودنا الشوارع التى خلت تماماً إلا من شباب اللجان الشعبية والقليل من سيارات توزيع المياه على البيوت إلى واقع ربما يكون أكثر قسوة مما وصفه الشابان.
أمام أحد المساجد التى تتوسط العاصمة اصطفت النساء والأطفال كل ممسك بدلوه عندما دقت الساعة الخامسة مساء بينما ينطلق أذان المغرب فى الثامنة إلا 15 دقيقة، والجميع يريد الانتهاء من تجهيز الإفطار، هكذا تحدثت معنا سيدة خمسينية، مرددة: «لم تصلنا المياه منذ 5 أيام وكل معلوماتنا عن انقطاع المياه هى وجود شائعة تفيد أن القذافى قام بتلويث وتسميم المياه قبل سقوط نظامه، لعقاب شعبه ومن وقتها والمياه لا تصلنا.
جاء الدور على السيدة فأسرعت فى تعبئة دلوها بالمياه حتى تتمكن من إعداد وجبة الإفطار لأولادها، والتى من المرحج أن تكون وجبة «المبكبكة» الشهيرة، بحسب قولها، خاصة بعد وجود نقص كبير فى المواد الغذائية وغلق أغلب المحال أبوابها، فيما قام البعض باستغلال الوضع الحالى ورفع أسعار المواد الغذائية بنسبة 75% عن سعرها الحقيقى.
اتجهنا إلى أحد المحال التجارية لشراء بعض المواد الغذائية فبعد دقائق سوف ينطلق أذان المغرب ولا نمتلك سوى عدة تمرات، دخلنا المحال فلم نجد سوى المشروبات الغازية والعصائر وقليل من علب التونة.
أحمد النعمانى، تاجر مواد غذائية، أكد أن مشكلة نقص المواد الغذائية تعود إلى بداية الثورة خلال فبراير الماضى وسيطرة الثوار على المنطقة الشرقية وبالتالى السيطرة على جميع المواد الغذائية القادمة من مصر والتى تشكل 90% من المواد الغذائية التى تعتمد عليها ليبيا بأكملها ليعتمد سكان المنطقة الغربية على الـ 10% من المواد الغذائية القادمة عبر معبر رأس جدير من ناحية تونس.
اعتماد أهالى المنطقة الغربية على الـ10% من المواد الغذائية القادمة من تونس لم يكن دائماً، فالاشتباكات التى قامت بها كتائب القذافى مع قوات الجيش التونسى فى مدينة دهب الحدودية على خلفية فتح أبوابها للاجئين الليبيين جعلت تونس تغلق حدودها مع ليبيا وبالتالى عدم وصول المواد الغذائية إليها، لتجعل الشعب الليبى يدفع ثمن ممارسات لم يرتكبها، وفقاً لكلام النعمانى.
العودة إلى الفندق لم تكن أفضل حالاً من شوارع طرابلس، فالكهرباء مازالت منقطعة ولايوجد فى الفندق سوى القليل من زجاجات المياه المعدنية وعلبة من حليب منحها إيانا «محمد الزعفانى» قائلاً بلهجة مصرية: «على فكرة أنا والدتى مصرية ومن بولاق»، منادياً «نبيل» الشاب المصرى: «هات شمع للأساتذة».
جلس «الزعفانى» معنا يقص علينا حكاياته مع الثورة الليبية وعلامات البهجة الممزوجة بلمحة من الخجل على وجهه وقال: «على فكرة أنا كنت من الموالين لنظام العقيد القذافى وكنت ضد الثورة فى بداية الأحداث ولم أقتنع بها إلا بعد دخول الثوار مدينة طرابلس أى منذ 6 أيام».
الزعفانى كان يرى أن تدخل «الناتو» ما هو إلا تدخل صليبى واحتلال للبلاد مردداً: كنت أتساءل طوال الوقت كيف يسمح الليبيون لأنفسهم أن ينقادوا تحت قوات الناتو؟» يعاود الزعفانى الضحك مرة أخرى: «منه لله القذافى قدر يضحك على شعبه ووظف إعلامه الرسمى بشكل ناحج».
لا ينسى «الزعفانى» البرامج التى كان يقدمها التليفزيون الليبى فهو كان متابعاً جيداً لقناتى الليبية والجماهيرية ولا يفوته برامج هالة المصراتى والدكتور حمزة ويوسف شاكير، رافضا متابعة القنوات الإخبارية العربية وخاصة قناتى الجزيرة والعربية، مسلماً بكلام موسى إبراهيم، المتحدث الرسمى باسم الحكومة الليبية، الذى كان يتهم الثوار بأنهم عندما يدخلون أى مدينة يصطحبون معهم «الجزيرة» لتصويرهم.
اللحظة الفارقة فى حياة «الزعفانى» كانت عندما اصطحبه «نبيل» المصرى إلى الساحة الخضراء سابقاً الشهداء حالياً، يوم 21 أغسطس الجارى أى بعد دخول الثوار إلى المدينة بيوم واحد ليرى الأوضاع على الطبيعية بعيداً عن إعلام القذافى ليشاهد المئات خرجوا إلى الساحة للاحتفال، تلاهم دخول ما يقرب من 60 سيارة تحمل مضادات الطيران تلقى التحية على أهالى طرابلس ثم تتجه وسط تكبيرات الأهالى إلى باب العزيزية للإطاحة بالقذافى.