لا تطوى صفحة جوائز المهرجان بمجرد الإعلان عنها، يظل هناك دائما حق أصيل للجميع فى قراءتها مثلما كان أيضا من حق لجنة التحكيم أن تقرأ الأفلام طبقا لأبجديتها الفنية.
لكل لجنة بالتأكيد قناعتها، وكثيرا ما يحدث تفاعل بين أعضائها يبرز فيه الأكثر تأثيرا، حيث يؤدى فى البداية إلى وضع المحددات التى تصبح بمثابة الدستور الذى تلتزم به، جاءت جوائز المهرجان وهى تحمل مفاجأة لبعض من كان يتصور أن الشريط السينمائى يساوى أولا الفكر الذى يحمله والفكرة التى يتبناها، وكلما كنت إيجابيا فى الاختيار باتت الجائزة أقرب إليك من حبل الوريد، هؤلاء يقيمون السينما من خلال أن يطلوا على القضية التى يحملها الفيلم، الشريط السينمائى لا تتعاطى معه فكريا وتغض الطرف عما هو دون ذلك، رغم أنه أساسا منتج جمالى تحكمك بالضرورة معايير جمالية فى تذوقه.
فى المظاهرات يكفى أن تقول مثلا ليهتف وراءك الناس (نموت نموت وتحيا مصر)، وهو نداء حماسى يخلو من ظلال الإبداع، بينما فى الشعر تقول (بلادى وإن جارت علىَّ عزيزة وأهلى وإن ضنوا علىَّ كرام)، فى تلك المسافة بين الهتاف والإبداع تكمن روح الفن وتستطيع أن تُمسك بجذوره التى ترشق مباشرة فى الوجدان.
ماذا تقول؟ هى الرسالة كيف تقول هو الإبداع، وبالتأكيد انحازت اللجنة إلى (كيف) قبل (ماذا)، ومن الممكن أن يقف على طرفى النقيض فيلمان مصريان برغم أن المسابقة عربية، والفيلم الفائز بالجائزة الكبرى للمهرجان (المهر الذهبى) هو العراقى (العاصفة السوداء)، الفيلم ناطق باللغتين الكردية والعربية للمخرج حسين حسن، كما أن جائزة لجنة التحكيم جاءت للفيلم اللبنانى (ميل يا غزيل) الليان الراهب، ورغم ذلك فإن التناقض فى الرؤية بين ماذا تقول وكيف تقول تجده يعلن عن نفسه أكثر فى الفارق بين منهج التعبير السينمائى فى (مولانا) مجدى أحمد على و(أخضر يابس) محمد حماد.
قبل أن يعرض الفيلم كان الكل يترقبه أتحدث بالطبع عن (مولانا) فكلنا نكتوى بالنيران وننتظر عملا فنيا يشفى غليلنا، وعندما حدث الاعتداء الغاشم على الكنيسة المصرية، تأكد الجميع أن هذا هو البرهان، أن الفيلم على الموجة تماما، بل طالب البعض بسرعة عرضه بمصر، بالمناسبة أتصور أن الفيلم سيحقق نجاحا جماهيريا لما يثيره من قضايا آنية، والمخرج مجدى أحمد على والبطل عمرو سعد يتوق كل منهما لتحقيق هذا النوع من النجاح الرقمى، كل منهما لديه إحساس بأن شباك التذاكر سيمنحه قوة إضافية داخل معادلات الوسط الفنى، التى تحيل كل شىء إلى معادلة حسابية، وأتصور أن عند عرض الفيلم تجاريا سيتحقق الرقم المرتقب، إلا أن حسابات لجان التحكيم فى تقييمها للإبداع لا تضع أبدا الحس الجماهيرى ضمن المعايير، وهكذا فاز المخرج محمد حماد فى أول تجربة درامية له، لأنه قدم السينما وهى فى أنقى وأرقى درجاتها، عندما ترنو لكى تُصبح سينما خالصة، وعلى موقع (المصرى اليوم)، وقبل إعلان الجوائز بساعات، كتبت كل شىء تكاد أن تراه ولا تراه، هكذا نسجت الإضاءة الشريط السينمائى فى (أخضر يابس) لتبدو الشاشة وجهاً آخر لتلك الشخصيات التى تعيش بيننا ولكننا فى العادة لا نراهم، أن تكافح البنت للحفاظ على غشاء البكارة يُصبح هدفا لا يمكن التضحية به، وهو المكسب الوحيد الذى حققته بطلة الفيلم التى تقف أمام الكاميرا لأول مرة هبة على، لا نعلم الكثير دراميا عن الشخصية، حيث يمنحنا المخرج المعلومة باقتضاب، هى قد وصلت إلى المنطقة الخطر نهاية الثلاثينيات، ومن هنا يكشف الفيلم فى جانب ما عن العنوان (أخضر يابس)، فى الحركة والنظرة والكلمة، هناك شىء يسير بخطوات للجمود قبل أن تصل بنا لنهاية العمر تكتشف أنك لم تعش أبدا الحياة، أن تندم لأنك فعلت شيئا خيرا من أن تندم لأنك لم تفعله، تلك هى الحكمة التى عادة لا نعرها اهتماما، إذا كنا فى النهاية سننتهى إلى التراب، فلماذا لا نجرب أن نعيش؟ الفيلم يضبط إيقاعه على مفتاح الإضاءة الخافت كصورة وتختفى تماما الموسيقى لأن التعبير بالشاشة يخلق نوعاً هامساً من الموسيقى، والشخصيات المحدودة فى الفيلم تبدو أيضا وكأنها تهمس فى الحضور، فلا تشى بأى تفاصيل مجانية، تتقدم إليك أيضا فى خفوت، لا يوجد فى الحقيقة قضية درامية وصراع بقدر ما أنت ترى مأساة إنسانة تعيش الحياة وهى فى الحقيقة لا تعيشها، (تكات) المترو وعجلاته تضرب على القضبان لحنا واحدا لا يتغير مثل حياة البطلة، وكأنه معادل صوتى لأنين سنوات عمرها المهزومة، الزمن سرق منها حتى الفرح الذى تمنحه الطبيعة للبشر أجمعين بأن لديهم طفلا يواصل حياتهم للزمن القادم.
وأضيف الآن أننا أمام سينما، ورغم ذلك فإنه كان وسيظل من حق قطاع من المخرجين أن يقدم نوعا آخر، سينما مضبوطة على موجة الناس، قد تضحى بين الحين والآخر بجمال التعبير من أجل أن يصل الصوت إلى قطاع أوفر من الجمهور ودائرة يعنيها تعتبرها هى الهدف، ولهذا يوجه هؤلاء المخرجون طاقاتهم بالدرجة الأولى فى ماذا تقول قبل أن يتوقفوا أمام كيف تقول، سينما تهتف على طريقة المظاهرات (نموت نموت وتحيا مصر)، ولا يعنيها أن تتأمل على طريقة الشعر (بلادى وإن جارت علىَّ عزيزة وأهلى وإن ضنوا علىَّ كرام)، سينما تصرخ ولا تعترف بالهمس، بينما لجنة التحكيم انحازت للهمس!!
من المؤكد أن جائزة أفضل ممثل كان بها ترشيحات ثلاثة، مجد مستورة التونسى بطل فيلم (نحبك هادى) للمخرج محمد بن عطية فى أول أفلامه الروائية الطويلة، الفيلم الحاصل على جائزة أفضل عمل أول فى مهرجان (برلين) 2016، والبطل منح جائزة أحسن ممثل فى نفس المهرجان، بينما عمرو سعد فى (مولانا) يقدم دورا مليئا بالمتغيرات النفسية والفكرية والصراع الداخلى الذى يضع الممثل فى أعلى درجات الاستعداد لإثبات قُدراته على التعبير وانتقاله بين أكثر من حالة، الفيلم الثالث ولا شك الذى نافس أيضا على جائزة أفضل ممثل هو (على معزة وإبراهيم) إخراج شريف البندارى فى أول فيلم روائى طويل له. ودور (على معزة) أداه الممثل على صبحى، حيث إنه يقف لأول مرة أمام الكاميرا، وكتبت عن بطل الفيلم بالضبط قبل ساعات من إعلان الجوائز «وهكذا يأتى البطل على الشهير بـ(على معزة)، فهى- أقصد المعزة- صارت وكأنها ظله الذى لا يفارقه ويطلق عليها (ندا)، بينما يراها الجميع مجرد معزة، تكمن فيها روح البطل، أدى الدور الممثل الجديد على صبحى، وفى الحقيقة لا يمكن أن تعزل هذه الشخصية عن الممثل، لأن جزءا أساسيا فى الفيلم أن تُصدق البطل فى ملامحه وتلقائيته ووجهه الطازج الذى يُطل عليك لأول مرة، وكلها تصب لتأكيد شىء واحد أنه حقا على معزة، لم يصل لا مستورة ولا سعد لتلك الحالة من التماهى مع الشخصية دراميا كما حققها على صبحى.
ويبدو بالفعل أن اللجنة رأت أن هذا الممثل بتلك الملامح وبطبيعة الدور وبتوجيه المخرج، وقبل كل ذلك بتسكينه فى هذا الدور، قطع نصف الطريق أمام وصول فكرة الفيلم وطبيعة نسيجه الفنى للجمهور.
وهكذا قرأت كيف اختارت لجنة التحكيم الجوائز بعيون تبحث أولا عن الجمال ولا شىء غير الجمال!!.