x

طارق الشناوي الفيلم خط الدفاع الأول ضد الإرهاب طارق الشناوي الأربعاء 14-12-2016 12:08


أجمل وأقصر قصة قصيرة للرائع باولو كويلو تستحق أن نتأملها معا، كان الأب يحاول أن يقرأ الجريدة، ولكن ابنه الطفل الصغير لم يتوقف عن مضايقته، فقام الأب بتمزيق ورقة منها كانت تحوى خارطة العالم حتى يلهى الطفل بإعادة بناء الخريطة حتى يتمكن هو من قراءة الجريدة، فوجئ بعد خمس عشرة دقيقة بأن ابنه يعيد له الصفحة مضبوطة تماما، فصارحه ابنه بأنه كانت هناك في الوجه الآخر من الصفحة صورة لرجل أعاد ترتيبها فانصلحت صورة العالم.

إنه الإنسان أولاً، هذا هو المغزى، وتلك هي الحكمة، وعلينا كلما اشتد الظلام أن نعرف أن الحل هو الإنسان، نعيش في إحباط وأحزان، خريطة مصر يحوطها شريط أسود يقطر دموعا لا تنضب على شهدائنا المصريين، بين ركام الإحباط يبزغ دائما الأمل في الغد، أن نواجه فيروس التطرف والإرهاب، وأحد أمضى أسلحة المواجهة هو السينما، ولا يعنى ذلك أن نقدم أفلامنا على طريقة (مولانا) لمجدى أحمد على، الذي يتناول مباشرة قضية فساد الخطاب الدينى الذي في النهاية أدى بنا إلى الكوارث التي نعايشها، هناك رسالة أبعد للفن، عندما يعلمنا التعاطى مع الجمال الإبداعى، الإرهابى والمتطرف لا يكره فقط الفن، بل يجرمه ويحرمه، والسينما المصرية هي السلاح الأقوى والأكثر شعبية لنعيد التوازن للإنسان.

بعد ساعات قليلة يلملم مهرجان (دبى) أوراقه وينهى دورته التي تحمل رقم (13) بنجاح واضح في استقطاب أهم الأفلام عالميا وعربيا، وأزيدكم من الشعر بيتا وأقول مصريا، شعرت بحالة من النشوة والاطمئنان على حال السينما المصرية بعد أن شاهدت ثلاثة مخرجين يُقدمون أفلامهم الطويلة لأول مرة، هكذا استعدنا الأمل ونحن نرى بُكرة بعيون جيل جديد يملك إرادة لا أقول أن يعبر عن نفسه، ولكن أن يُصبح على الشاشة هو نفسه.

قبل أيام تناولت في تلك المساحة المخرج محمد رشاد وفيلمه التسجيلى الطويل (النسور الصغيرة)، وشاهدت في الأيام الماضية الفيلمين الروائيين الطويلين (أخضر يابس) محمد حماد، و(على معزة وإبراهيم) شريف البندارى، هناك خصوصية بالطبع لكل تجربة، ولا يمكن أن تضعهما في جملة واحدة إلا إذا كان عنوان العرض هو أن شمسنا السينمائية أشرقت في (دبى)، ويستحق الفيلمان مساحة قادمة، ولا أستبعد أن يتردد اسماهما كفيلمين وأبطال مساء اليوم عند إعلان النتيجة، ولكن سيظل السؤال: لماذا يفضل السينمائى المصرى والعربى أن يطل على بلاده من (دبى)؟ ممكن على عجالة أن تختصر الإجابة في القوة الاقتصادية للمهرجان، بالتأكيد هناك دعم مادى وأدبى وراء نجاح المهرجان، دولة تُدرك أهمية أن تُصبح هذه التظاهرة السينمائية عُرسا فنيا يترقبه الجميع، فهو أحد أسلحة القوة الناعمة الجاذبة للأفلام، لديك مناخ يسمح بإنشاء سوق قوية تتواجد من خلالها شركات الإنتاج، ومن هنا يُصبح من حق السينمائى أن يحلم بمشروعه القادم ولا يتوقف فقط خياله عند تسويق فيلمه الذي جاء به للمهرجان، ليس كل من يشارك في المهرجان يحمل فيلما، ولكن من الممكن أن يحمل فكرة قابلة للاكتمال فتجد من يحتويها، ولهذا وجدنا أن من دبى ينطلق الإعلان عن (مؤسسة الفيلم العربى) التي ستساهم في الإنتاج والدعم للسينما العربية.
المهرجان صار هدفا لشباب المبدعين وإبداعهم البكر، وهناك أيضا تواجد للكبار والمخضرمين، ولاتزال الصفة العربية هي الغالبة، رغم أنه مفتوح لكل أفلام العالم إلا أن الرهان العربى بما ينضوى تحته من خليجى أو إماراتى يحتل مقدمة الكادر، وأرى دائما أن الناقد مثل القاضى، عليه أن ينحى جنسيته فلا ينحاز لسينما بلده لمجرد أنه يحمل مثلا جواز سفر مصريا والفيلم أيضا يحمل جواز سفر مصريا، ولهذا عندما أشاهد عملا فنيا أجد نفسى أتعامل معه بحياد ولا يعنينى أنه ينافس في نفس الوقت فيلما مصريا، بالتأكيد لو فيلم مصرى فاز في النهاية بجائزة (المُهر الذهبى) أو كانت جائزة أحسن ممثل أو ممثلة من نصيبه فسوف أنتشى من الفرحة وأصفق له من قلبى قبل يدى، ولكن لا يعنى ذلك ألا أصفق عندما ينالها فيلم عربى، وهكذا أحرص على مشاهدة أغلب الأفلام، لأعرف بالضبط أين تقف الآن أفلامنا العربية.

شعار هذه الدورة الذي أطلقه عبدالحميد جمعة، رئيس المهرجان، هو (جهز نفسك)، وهو كما ترى يصلح لكى يفتح أمامك العديد من الأبواب، لكى تصبح مستعدا في كل وقت، وتعددت بالطبع الأسباب، ولأننا بصدد مهرجان فإن المعنى المباشر هو أنك أمام مائدة حافلة بالأفلام وعليك أن تقتنص منها ما تيسر، فكن مستعدا.

وبعد أن شاهدت عددا منها، سواء على الشاشات السينمائية أو في (السينما تك) مكتبة الأفلام، فإن التجهيز الوحيد الذي يجب أن يتحلى به المتابع لهذه الدورة هو أن هناك شاشة تملك الحقيقة والجاذبية في نفس الوقت ولديها الذخيرة الحية من الأفلام التي ينتعش بها العديد من التظاهرات، الأفلام العربية التي استوقفتنى (نحبك هادى) و(جسد غريب) تونس، و(يا عمرنا) و(المحسوس) لبنان، و(إنشالله ما استفدت) الأردن، دعونا نتوقف في تلك المساحة مع الفيلم المغربى (عرق الشتا)، الذي عُرض في المسابقة الرسمية للمهر العربى، حيث يجمع بين الإطارين الجمالى والفلسفى في آن واحد، ليست سينما تحريضية من أجل أن تلهمك أو تبعث بداخلك روح المقاومة، فهذا المعنى قد تجاوزته السينما وهى تشب عن الطوق، ولكن هذا الفيلم، الذي يُقدمه حكيم بلعباس، تعبير مباشر عن السينما التي لا تخضع سوى لعلم وفلسفة الجمال، في عناق تعلن عنه صوتا وصورة، ومنذ اختيار العنوان تجد أنه يمنحك الخيط للتأمل، حيث إن الصراع الداخلى هو المعادل الموضوعى للعرق الذي يفرزه هذه المرة البرد في الشتاء، لسنا بصدد معركة محتدمة تصطدم خلالها بتلك الصراعات الظاهرية، ولكن كل الشخصيات تعيش المعاناة وتتعاطف وتتماهى كمشاهد معها، إلا أنك لا تتورط في أن تُصبح طرفا إيجابيا، حافظ المخرج على تلك المسافة التي تمنح الفيلم خصوصية في التعبير لتعلو به إلى مصاف السينما الخالصة، ليس مهما ما الذي تروى، الأهم هو كيف تتعانق كل المفردات في لوحة على الشاشة، مفتاح الفن يكمن في كيف، وليس كما يعتقد كُثر في ماذا.

إنك أمام شريط ينطق بكل المفردات الجمالية، تصوير وموسيقى وأداء ممثلين، وقبل كل ذلك إحساس ينساب داخل الفيلم ليقدم لنا حياة بشر يعبرون عن ثلاثة أجيال يعيشون الحياة الضنينة التي لم تمنحهم سوى القليل، ولكنهم يملكون أسلحة المقاومة، لا شىء من الممكن أن يشعرك بأنك بصدد مجموعة من الممثلين يقدمون فيلما ولا حتى سيناريو اشتغل عليه حكيم بلعباس، وهو أيضا المونتير، ولكنها سينما تهتف بأنها حقا سينما، يفرض هذا الإحساس أن يُصبح المخرج والكاتب والمونتير واحداً، وكأن الفيلم يولد دفقة واحدة.

الشخصيات مثل الجد والحفيد تتناقض وأيضا تتلاقى، الجد الطاعن في العمر ولكنه يريد أن يكمل الحياة من خلال استدعاء الماضى، الحفيد لديه إعاقة ذهنية يتعثر في التعبير عن نفسه أو يتحول إلى مادة ساخرة لزملاء المدرسة، المقاومة هي المفتاح، ويتكئ كثيرا على الخيال، وفى مشهد مؤثر، يعلمه الأب كيف يحلق ذقنه في تفصيلة تمنحنا الخيط لندرك أنه وصل لمرحلة عمرية بدايات الإحساس بالرجولة، الموسيقى تُقدم لمحات من الفولكلور المغربى برؤية وبتوزيع موسيقى عصرى، الشتاء عندما يفرز عرقا فإن النتاج هو المعاناة التي تعيشها تلك الأسرة التي تستلهم روح المقاومة من القدر الذي يبدو لا فكاك منه، والمرأة في الفيلم تظل شاطئ التلاقى بين الأجيال الثلاثة، الفيلم لا يمكن أن تضعه في إطار الحبكة الدرامية المباشرة في بنائها، بداية ووسط ونهاية، ولكن كل الشخصيات الأربع الرئيسية تملك معاناة داخلية وأيضا رغبة في القفز بعيدا عن القدر الذي لا يتوقف عن ملاحقتها. لوحة سينمائية قدمها بلعباس تجمع بين الرؤية الفانتازيا والواقع، حيث تلمح الأرض والسماء، والطبيعة والبشر، في عناق وكأنها موسيقى مرئية، ونكمل غدا مع إشراقة أكثر من فيلم مصرى في دبى!

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية