الحلقة الخامسة
فى مكتبه بمبنى دار الإفتاء الفلسطينية بضاحية «الرام»، التى كانت جزءا لا يتجزأ من القدس الشرقية حتى فصلها الاحتلال بالجدار العازل، وبها مقار عدة للسلطة الفلسطينية، أهمها مقر محافظة القدس، جلس مفتى القدس والديار الفلسطينية، محمد حسين، الذى حكم قضاء الاحتلال على «مظلته» بالسجن لمدة عام، بعد أن لفقوا له تهمة محاولة طعن مجند إسرائيلى بها، متحدثا عن مقاومة الأقصى لتهويد القدس، وما يجب أن يفعله العرب والمسلمون لدعم قرار منظمة «اليونسكو» حول المدينة المقدسة والمسجد الأقصى، كما اعتبر أن زيارة الأقصى باتت فى حكم الوجوب على كل من يستطيع دخول فلسطين لدعم المقاومة وإثبات حق المسلمين فى زيارة الأقصى. وتطرق المفتى، فى حواره لـ«المصرى اليوم»، إلى أهم القضايا الشائكة التى تم الإفتاء بها للفلسطينيين بحكم مقاومة الاحتلال، وأبرزها قضية نقل «النطفة» من الأسرى لزوجاتهم، لإنجاب أطفال عن بعد، وقضية الإضراب التى تصل بالبعض إلى الموت داخل السجون الإسرائيلية، كما تحدث عن أثر الجدار العازل الذى شيدته إسرائيل حول القدس على عزل الأقصى الشريف.. وإلى نص الحوار:
■ بداية ما حالة المسجد الأقصى فى ظل استهداف الاحتلال له سواء بأعمال الحفر أو التهويد؟
- حالة المسجد الأقصى والمدينة المقدسة بشكل عام، حالة صعبة للغاية، فى ظروف الاحتلال الغاشم الذى يحاول طمس معالم التاريخ والحضارة وتغير الحقائق، خاصة فى المسجد الأقصى المبارك، لكون الاحتلال لا يملك أى مقومات حضارية أو تاريخية أو دينية فى المسجد الأقصى، لكن يحاول فرض واقع فى المسجد عن طريق قوة الاحتلال، زورا وبهتانا، لكن فى المقابل هذه المحاولات لا تقوى على مقاومة الحضارة الدينية والأصول التاريخية الثابتة فى المسجد الأقصى بالنسبة للمسلمين، وامتداد الوجود العربى والإسلامى المتأصل فى المدينة المقدسة لآلاف السنين، وبالتالى كل ما تحاول السلطات الإسرائيلية القيام به تعد محاولات لطمس الحضارة عن طريق الحفريات، التى تزيل بها الأصول التاريخية، ووضع أشياء مزورة، ليثبتوا أنهم كانوا هنا منذ آلاف السنين، فيقولون وجدنا قطعة من عصر قديم علهم يستطيعون إثبات حق لهم فى المدينة المقدسة، وسرعان ما يكتشف العالم أباطيلهم وتزويرهم، حتى مؤسساتهم الإسرائيلية نفسها تعترف بعد فترة بتزوير هذه القطع الدخيلة على تاريخ البلدة.
وفى النهاية نقول إنها محاولات واضحة لفرض واقع احتلالى بحكم مبدأ «الغلبة للقوة»، لكن لن تستطيع أن تطمس وتخفى الحضارة القائمة، والظاهرة للعيان فى كل المقدسات والقباب والزوايا فى هذه الديار المباركة التى تقول إن الحضارة هنا كانت عربية وإسلامية.
■ كيف تقاومون محاولات التهويد المستمرة للقدس والمسجد الأقصى؟
- نحن نحاول جاهدين بكل ما أوتينا من قوة محاربة الحفريات والتهويد، سواء كان باستخدام الحق القانونى فى المؤسسات القانونية أو اللجوء إلى المنظمات الدولية وطرق أبوابها، كما حدث مع منظمة اليونسكو التى أتت قراراتها الأخيرة متوافقة تماما وداعمة للحق الإسلامى الثابت فى هذه الديار، فيما يتعلق بالمقدسات، وقالت بكل وضوح إنه لا يوجد لليهود أى حق دينى أو تاريخى فى المسجد الأقصى، كما أن القرار الأشمل الأخير بخصوص القدس قالت فيه إن القدس مدينة محتلة، وبالتالى لا يجوز لسلطات الاحتلال أن تقوم بأى حفريات أو تنقيب، ولا يجوز لها أن تغير أى شىء من الآثار والحضارة العربية والإسلامية.
■ ما القرار الذى تعتبره الأهم فى قرارات اليونسكو فيما يخص تراث القدس؟
- القرار الأهم تعريف اليونسكو للمسجد الأقصى بأنه كل ما يحوطه سور الأقصى من الجدار الغربى، وهو به حائط البراق وطريق وبوابة المغاربة، وكل الساحات والمرافق المحيطة بالأقصى، ونأمل فى هذا الجانب القانونى والتاريخى والتوثيقى أن يكون هناك مواقف عربية وإسلامية تدعم هذه التوجهات وتراكم مزيد من القرارات على هذه القرارات، وتطالب المجتمع الدولى بالضغط على إسرائيل بعدم الاستمرار فى الحفريات، والسماح لوفد اليونسكو والأمم المتحدة بزيارة القدس، ورفع التقارير إلى هذه المؤسسات الدولية التى تعنى بالمحافظة على التاريخ والحضارة والتراث.
■ ما أدوات الدعم العربى للمحافظة على القدس والأقصى؟
- هناك الكثير من أدوات الدعم التى يجب أن يقوم بها العرب لنصرة الأقصى، ومنها أدوات دعم قانونية متمثلة فى تفعيل القانون الدولى، والقانون الدولى الإنسانى، واللجوء إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن، واستصدار قرارات من شأنها الضغط على الاحتلال ومنعه من المضى فى هذه الاعتداءات والإمعان فى إيذاء المقدسات وتعريضها للخطر، سواء كان على مستوى الجامعة العربية أو الأمم المتحدة، لدعم أبناء الشعب الفلسطينى أمام المنظمات الدولية والإقليمية، فلا يكفى وقوف الفلسطينيين وحدهم فى الميدان مدافعين عن القدس والأقصى، لأن المعركة شرسة وأكبر من طاقات الشعب الفلسطينى الأعزل الذى لا يملك إلا دمه للدفاع عن المقدسات العربية والإسلامية.
■ برأيك هل بناء الاحتلال للجدار العازل دور فى منع كثير من الفلسطينيين من دخول القدس للصلاة فى الأقصى والحشد ضد التهويد؟
- نعم أثر الجدار كثيرا على القدس، وليس فقط على الحركة الدينية والصلاة، بل على كل النواحى الحياتية فى المدينة، سواء كانت نواحى اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية، وباتت القدس معزولة بهذا الجدار عن محيطها الفلسطينى وواقعها العربى، وبات من يستطيع الوصول إلى القدس للصلاة من هم فوق الـ60 سنة، أما ما دون ذلك من أبناء الضفة فلا يستطيعون دخول المدينة المقدسة، إلا من خلال تصريح من سلطات الاحتلال، وهم فى الغالب لا يسمحون لمن يقل عمره عن 50 سنة للصلاة فى الأقصى.
كما أن موارد المسجد الأقصى البشرية الآن فى فلسطين تنحصر فى من يحملون الهوية المقدسية، وأبناء فلسطين من عرب 48 بمدن الداخل، لكن أغلبية الفلسطينيين لا يستطيعون الدخول من خلال المعابر والحواجز الموجودة على الجدار العازل، عدا من هم فوق عمر الـ50 عاما، وهو عدد لا يتناسب مع من تملأهم الرغبة بالوصول إلى أماكن العبادة فى المدينة المقدسة.
■ كيف يكون مكتب مفتى القدس خارج الجدار العازل وبعيدا عن القدس؟
- لى مكتب فى المسجد الأقصى المبارك، كخطيب للمسجد الأقصى وكمفتى، لكن نحن هنا لأن الموظفين بالإدارة العامة ليس مسموحا لهم بالدخول إلى القدس بسبب الإعمار، وبالتالى نحن مضطرون للتواجد هنا، كما أننا لا نعترف بالجدار بأنه يقسم القدس إلى قدسين أحدهما داخل الجدار والآخر خارج الجدار، ونحن هنا فى ضاحية «الرام» التى نقيم بها، وهى إحدى ضواحى القدس من قبل إقامة الجدار، ونرفض أن يقسم هذا الجدار ضواحينا لداخل القدس أو خارجها، فنحن لا نعترف بالجدار ونرفضه جملة وتفصيلا، كما أن الجدار ما هو إلا أحد الإجراءات الاحتلالية التعسفية المرفوضة، وهو ما قالته محكمة العدل الدولية فى لاهاى، حينما حكمت على الاحتلال بعدم أحقيته فى إقامة الجدار وتعويض الفلسطينيين الذين أضيروا من إقامته، لكن لى مكتب رئيسى فى رحاب الأقصى الشريف، أتواجد فيه دائما بحكم أننى مفتى فلسطين والقدس، أما هذا المكتب نعتبره الفرع الثانى فى مدينة القدس فقط من أجل ممارسة الأعمال الإدارية.
■ ماذا عن واقعة المظلة «الشمسية» التى حبسها الاحتلال لمدة عام؟
- حدث ذلك فى واقعة معروفة منذ 20 عاما، وقتها كنت مديرا للمسجد الأقصى، وكان يوم مطر وشتاء، وكنت أحمل مظلتى، فلفقوا لى تهمة باطلة مفادها أننى حاولت طعن أحد المجندين الإسرائيليين بالمظلة، واستدعونى للتحقيق فى مركز أمنى تابع للاحتلال بباب الخليل بالبلدة القديمة، ونفيت فى التحقيق كل ما جاء فى اتهاماتهم وكل ما نسب إلى، لأنهم كالعادة غيروا الحقيقة وألبسوا الباطل ثوب الحق، لكن احتجزوا الشمسية لمدة سنة.
■ ما رأيك فى دعوات بعض الدول العربية لمقاطعة زيارة القدس تحت الاحتلال؟
- نحن سنبقى مرابطين ومدافعين عن هذا المسجد وهذه المدينة المقدسة، وسنبقى نحن المقدسيين المرابطين والصابرين فيها، وندعو كل أبناء أمتنا العربية والإسلامية أن يكون لهم مساهمات فى حماية هذا المسجد، ولو على الأقل من خلال زيارة المدينة المقدسة، وهذه دعوة مفتوحة لكل أبناء شعبنا العربى والإسلامى، ونقول لهم، عليكم أن تزوروا القدس، لأن زيارتكم للقدس تثبت حق العرب وحق المسلمين فى المدينة المقدسة، وتقول للعالم أجمع أن نحن نزور القدس لأنها مدينة عربية إسلامية، ولنا حق تاريخى ودينى فى هذه المدينة، ونأتى للقدس لدعم صمود أهلها ضد الاحتلال، ولذا باتت الزيارة للقدس الآن بدرجة الوجوب بالنسبة لأى عربى وأى مسلم المجىء للقدس، لأن زيارة المدينة إحدى وسائل إثبات الحق العربى ودعم للمقاومة والصمود، ومن يستطيع أن يأتى فليأت بأى وسيلة إلى المدينة المقدسة للزيارة والصلاة والدعم.
■ بعض العرب يدعون إلى مقاطعة الزيارة؟
- هذا خطأ، فالمدينة عربية إسلامية، والأمة العربية مسؤولة عن حماية هذه المدينة بشتى الطرق المتاحة.
■ لكن ماذا عمن يحصل على التأشيرة الإسرائيلية لدخول فلسطين والقدس المحتلة؟
- من يأتى فليأتى، وله أن يبحث عن وسيلة يدخل بها المدينة المقدسة، فمن أراد لن يعدم الوسيلة إذا كان يريد ذلك فعليا.
■ هل تم التعرض لفضيلتكم من قبل قوات الاحتلال أثناء تواجدكم فى الأقصى؟
- أنا لست أفضل من أبناء شعبى، أنا بصفتى خطيب الأقصى أتعرض لكل ما يتعرض له أبناء الشعب الفلسطينى، أشم معهم الغاز المسيل للدموع وأتعرض للإغماءات، وفى إحدى المرات قام أحدهم بإلقاء قنبلة صوت بجوارى مباشرة، فجميعنا نعانى، ومن يستهدف مرابطى الأقصى لا يفرق بين مفتٍ أو شيخ أو صغير أو كبير، كل أبناء القدس سواء حتى فى تعرضهم للاعتداء، لكن سنبقى مدافعين عن المسجد ولن ترهبنا وسائلهم ولا قنابلهم.
■ ما رأيكم فى زيارة البابا تواضروس للمدينة بعد أعوام من المقاطعة؟
- دائما نرحب بكل دعوة لزيارة الأماكن المقدسة فى القدس، ومنها كنيسة القيامة وبيت لحم، سواء صدرت من بابا الإسكندرية رئيس الكنيسة القبطية فى مصر، أو أى مسؤول عربى يدعو لزيارة المدينة المقدسة، فزيارتها مفتوحة للمسلمين والمسيحيين الذين لهم حق تاريخى دينى فى هذه المدينة.
■ ما سر التعايش بين المسلمين والمسيحيين داخل أسوار القدس؟
- المسلمون والمسيحيون يجمعهم عيش وليس تعايش، وحياتهم مشتركة، فنحن وإياهم مواطنون فلسطينيون تجمعنا المواطنة الفلسطينية الكاملة، ولا يتفوق أى فريق على الآخر فى أى حق من حقوق المواطنة أو حرية العبادة، ونحن حريصون على أن تبقى الكنيسة عامرة بأهلها، كحرصنا على بقاء المسجد عامرا بأهله، وعدونا مشترك وهو الاحتلال الإسرائيلى.
المسيحيون والمسلمون يعيشون متساوين فى كل الحقوق، فهكذا أراد الله لهذه المدينة المقدسة، وقدوتنا فى ذلك سيدنا عمر ابن الخطاب حينما وقع العهدة العمرية وأعطاها لأهل القدس من المسيحيين، وهى دستور يحتذيه ويعمل به كل من جاء بعد عمر، وهو ما أكد عليه صلاح الدين حينما حرر القدس، نحن نراعى العهدة العمرية ونحافظ عليها، وخير دليل على ذلك أنه أمام كنيسة القيامة تجدين مسجد عمر ابن الخطاب الذى رفض الصلاة فى كنيسة القيامة حتى لا يأتى المسلمون من بعده ليقولوا «هنا صلى عمر» فيتخذون منها مسجدا.
■ ماذا عن البند فى العهدة العمرية التى نصت على عدم سكنة يهود فى المدينة المقدسة؟
- نعم كان هذا بناء على طلب مسيحيى القدس بألا يساكنهم فيها يهود، فاستجاب لهم عمر ابن الخطاب، وهو موجود فى نص العهدة العمرية الأصلية داخل كنيسة القيامة.
■ هل هناك فتاوى خاصة بأهل فلسطين فرضتها قضية النضال ضد الاحتلال لا تنطبق فى الحالات العامة؟
- نعم هناك الكثير من الفتاوى الخاصة بالقضية الفلسطينية ولا يمكن العمل بها بمعزل عن الأوضاع النضالية ضد الاحتلال والتغلب على ظروف السجن والأسر.
■ ما أهم الفتاوى الغريبة التى تم الإفتاء بها للفلسطينيين خاصة؟
- هناك فتوى النطف المهربة، التى أعطتنا أكثر من 60 طفلا، حيث تم تهريب النطف من إخواننا الأسرى فى السجون الإسرائيلية، ومن ثم لقحت بها زوجاتهم تحت إشراف طبى دقيق 100%، وأصدر المجلس الأعلى للفتوى، فتواه بإجازة ذلك، وهو ما لاقى قبولا بين الفلسطينيين فى الداخل والخارج، وهو قرار يواكب الحالة النضالية لأبناء شعبنا.
■ ماذا عن قضية إضراب الأسرى عن الطعام؟
- أطلقنا فتوى بإباحة إضراب الأسرى عن الطعام، وقلنا إنها أداة من أدوات الجهاد والمقاومة، لكن لا يلجأ إليها أولا، بل فى آخر المطاف، حيث يأتى الإضراب بالتدرج، وصرحنا بأن من توفى فى حالة الإضراب نسأل الله أن يتقبله شهيدا، فهو لا يلجأ للإضراب لأنه يريد أن يقتل نفسه، لكن من أجل الحصول على حقوقه الإنسانية.
■ ما رأيك فى شراء الفلسطينيين بضائع من المستوطنات؟
- أصدرنا فتاوى بتحريم التعامل مع المستوطنات ومنتجاتها أو العمل بها، لكن هناك حالات بها ضرورة مثل منتجات لا بديل لها، فالشعب حتى يستمر فى صموده فى أرضه مضطر إلى التعامل مع الاحتلال، لكن علينا أن نجعله فى أضيق الحدود، بفكرة الضرورات للغاية تبيح المحظورات.
■ ماذا عن قضية الجنسية الإسرائيلية التى فتحتها إسرائيل للفسلطينيين وفتواكم بتحريمها؟
- أفتينا بتحريم الحصول على الجنسية الإسرائيلية لأبناء الضفة الغربية كاملة، بما فيها القدس وقطاع غزة، لأن لديه مجالا أن يعيش بدون هذه الجنسية، أما أبناء عرب 48، فإما أن يحملوا الجنسية وإما أن يغادروا البلاد، فأمام إكراههم على المغادرة يجوز لهم الجنسية.
■ ما رأيكم فى تنظيم «داعش» الإرهابى وكيف تصنفه؟
- «داعش» صنيعة دول الكفر، ألبسوها ثوب الإسلام والإسلام منها براء، ولا أعلم كيف تنطلى أفعالهم على بعض المسؤولين العرب أو المسؤولين المسلمين، فالإسلام لا يأمر بقتل النفس المعصومة ولا بحرق الإنسان ولا استحلال الحرمات.
■ ماذا عن تكفير داعش بعد كل هذه الجرائم؟
- نحن لا نتكلم عن التكفير، لأن له حدودا وأحكاما، نحن نتكلم عن تصرفات يتم الربط بينها وبين الإسلام، وعلينا أن نقول إن هذه الأفعال ليست من الإسلام، لكن لا نكفر أحدا ينطق بالشهادة قد يكون فاسقا أو عاصيا.