x

يابيوتك يا إسكندرية عندما تتراقص الأعمدة الخرسانية .. وتمطر «السقوف»

الجمعة 31-12-2010 18:27 | كتب: دارين فرغلي |
تصوير : حازم جودة

أحياء سكندرية يعيش فيها عشرات السكان، خائفين من انهيار منتظر، يسكنون غرفا لا تزيد مساحتها على 4 أمتار، يشتركون فى دورة مياه واحدة، هكذا رصدت «المصرى اليوم» الحياة فى «كرموز» و«كوم الدكة» فالمنازل أصبحت غرفاً أخشابها اهترأت وأسقفها انهارت، وأعمدتها تآكلت، والعجائز يبيتون فى الشوارع، خوفا من ألا تسعفهم أجسادهم النحيلة فى الهروب خارجها إذا ما انهارت فجأة، والأطفال لا ينامون الليل خوفا، وأمهات يدعون الله ليلا ونهارا أن يبقى لهم تلك الجدران الأربعة قائمة، وتقارير رسمية توجب إخلاء العقارات «فورا».. ومن خلال الكلمات القادمة نضع الحقائق أمام المسؤولين، أملا فى أن يلتفتوا لتلك الأوضاع قبل فوات الأوان.

«كوم الدكة».. بيوت خشبية متهالكة.. وأسقف منهارة.. وسكان يحلمون بـ«البدائل الحكومية»


 

«شد الحزام على وسطك غيره ما يفيدك.. لابد عن يوم برضه ويعدلها سيدك.. وإن كان شيل الحمول على ضهرك يكيدك.. أهون عليك يا حر من مدة إيدك»، لن تقفز فى مخيلتك تلك الجمل من أغنية الراحل سيد درويش، لأنك تتجول بين أركان الحى، الذى عاش فيه منذ ما يزيد على قرن من الزمان، ولكن لأن الحال الذى آلت إليه معظم بيوت «كوم الدكة» يجعل تذكرك تلك الكلمات ضرورة لا مفر منها. فالحال هنا يبدو وكأن أعراض ما بعد الشيخوخة قد أصابت تلك البيوت، فجدرانها ذبلت، وأخشابها اهترأت، وانهدم الكثير من أساساتها، فانعدم الأمان بين أركانها، فهنا بيت تهدم ما يزيد على نصفه، وآخر وقعت جدران غرفة فيه، وأنقذت العناية الإلهية بقيته، أما ذلك البيت فاكتفى بأن يميل بسكانه قليلا، وكأنه يرسل إليهم بآخر تحذيراته قبل أن يعلن استسلامه.


تسكن الحاجة فاطمة فى غرفة صغيرة بحارة العروسى، تتذكر جيدا أنها وقبل خمسين عاما حين أتت لتسكن هذه الغرفة كان ارتفاع العقار 4 طوابق، وأنه كان يضم ما يقرب من 60 فردا فى غرف صغيرة ودورات مياه مشتركة، ولكن «عمره الافتراضى» - كما تبرر - هو الذى أدى إلى أن يبقى النصف، ويضيع النصف الآخر بعد أن تآكل، فالحاجة فاطمة محمد حفنى جاءت إليه فى عمر لم يتعد 14 عاما، وتزوجت به وأنجبت أبناءها الخمسة، تنظر إلى أخشابه المتساقطة من السقف، وتقول مبتسمة «إذا كانت الشيخوخة قد نالت منى فماذا عنه؟!»، ورفعت يديها إلى السماء قائلة: «ربنا اللى بيسترها عشان إحنا غلابة».


وحين سألناها كيف لا تخاف المبيت فى غرفة بعقار يسقط شيئًا فشيئًا، أجابت «وأين سأذهب فى عمرى هذا، هل أسكن الشارع وأنام على الأرصفة بعد أن تجاوزت الستين»، ثم أشارت إلى الغرفة التى تسكنها مع ابنيها بعد أن تزوج الثلاثة الباقون قائلة «البيت جايله قرار إزالة وصاحبه مش عاوز يرممه ولا يدينا فلوس عشان نمشى وأنا معنديش غير 110 جنيه هما معاشى كل شهر يبقى يا نسرق يا نبيع مخدرات عشان نجيب شقة بره».


وقبل أن نمضى رسمت على وجهها ابتسامة بدت متواضعة وقالت «بيتنا إن شاء الله مش هيقع طول ما ربنا معانا وحتى لو هيقع خشبة خشبة فجدرانه هتفضل سليمة».


متر واحد تقريبا يفصل غرفة الحاجة فاطمة عن غرفة جارتها «أم منيرة»، هى غرفة برغم ضيقها تسع الجميع، وبرغم فقرها فإنها أنيقة ومرتبة تتبعثر فيها صور لـ«ميسى» لاعب نادى برشلونة الإسبانى، وأخرى للمطرب «تامر حسنى»، تلك الصور رتبتها الابنة الصغرى «منيرة» ليس حبا فقط فى هذا اللاعب وذاك المطرب، وإنما رغبة أيضا فى إخفاء شعورها بالخوف من الشروخ التى تشق جدران الغرفة، «منيرة» تمكث فى تلك الغرفة التى لا تتعدى مساحتها 4 أمتار طوال ساعات النهار وحدها حتى يعود الأم والأخ الأكبر من عملهما، أما الأب فواتته المنية بعد أن زوج الابنة الكبرى.


لم تلق فكرة صعودنا إلى الطابق العلوى قبولا لدى الحاجة فاطمة ومنيرة، ليس لشىء إلا لأنهما يريان أنه يجب أن تكون من سكان البيت لتتمكن من صعود درجات السلم دون أن تتسبب فى سقوط خشبة أو انزلاق حجر، ولكن محاولات إقناعنا لهما بصعودنا فلحت.


السلالم الخشبية بالكاد تظهر ملامحها، أما السور الذى تستند عليه للصعود فيحتاج إلى من يسنده، وفى الطابق العلوى كانت تقف سيدة سبعينية، تستند على سور خشبى تميل بجسدها النحيل قليلا إلى الأسفل لتتحدث إلى جاراتها بالطابق السفلى، فهى كما تقول لا تستطيع النزول إلى الأسفل لكبر سنها وصعوبة استخدام تلك السلالم «المخيفة»، على حد وصفها، أقصى ما تحلم به تلك العجوز هو أن يهد هذا العقار فى سلام وأن يعوضوا جميعهم عنه بمساكن أخرى، لتنتهى مخاوفها على حفيديها اللذين يسكنان معها فى نفس الغرفة.


الحال ذاته كان من نصيب العقارات المجاورة، فكل من يسكن «كوم الدكة» يسمع على فترات متقاربة بأمر العقارات التى تهتز جدرانها بين الحين والآخر، أو تتساقط بعض أجزائها، وغرفة «أم سمر» تقع فى أحد تلك العقارات التى يحدث بها الأمران بين الحين والآخر، فهى تهتز قليلا، وتتساقط أجزاء منها فى أحيان أخرى.


ففى شهر أبريل الماضى انهارت الغرفة الملاصقة لها، وهرع جميع سكان العقار إلى الخارج، وتعالت صرخاتهم، نظروا إلى بعضهم، وكأنهم يفتشون فى أعينهم عن ضحايا، ولكن العناية الإلهية أنقذت الجميع، فانتهى الخوف وبقيت آثاره على وجوه الجميع وعلى تصرفاتهم أيضا، فمازالت «أم سمر» حتى الآن تنام طوال الليل وتصحو طوال النهار بينما تفعل ابنتها العكس، وكأنهم بذلك يتناوبون على حراسة العقار، خوفا من أن يباغتهم الانهيار وهم نيام، تلوم الأم الستينية على أصحاب العقار لأنهم لا يسعون إلى ترميمه أو إلى تنفيذ قرار إزالته وتعويضهم عنه، وتعيب أيضا على مسؤولى الحى الذين يسكتون على هذا الوضع، فصحيح تعيش مع ابنتها فى غرفة لا تتعدى 3 أمتار ويقتسمون دورة المياه مع 3 أسر أخرى فى الطابق السفلى، إلا أن تلك الغرفة هى حياتهم كلها.


أما ذلك المنزل الذى اضطر أصحابه لأن يبنوا أعمدة من الطوب لتستند عليها حوائطه، فالسبب فى ذلك يعود لأن جدران المنزل مالت فجأة، وأصيب سكانه بالذعر، والمبالغ المطلوبة لترميمه ليست بحوزتهم، لذا فتلك الأعمدة كانت الحل الوحيد، «حسن» يسكن فى غرفة بالطابق السفلى بذلك العقار منذ ما يزيد على أربعين عاما، يدفع جنيهاً ونصف الجنيه شهرياً كإيجار، أما الطوابق الثلاثة الأخرى فعبارة عن شقق سكنية، يسكن كل واحدة منها 3 أسر ويشتركون فى دورة مياه واحدة، ورغم صعوبة العيش فى غرفة لا يتعدى عدد أمتارها أصابع اليد الواحدة، ورغم قسوة أن تشترك مجموعة من الأسر فى دورة مياه واحدة، ورغم بشاعة العيش دون أى خصوصية، إلا أن أكثر ما يؤرق السكان هنا هو احتمال انهيار العقار فى أى لحظة، يقول «حسن» إنه لا يتذكر أنه رأى مسؤولا من الحى أتى ليفحص العقار رغم الحال الذى آل إليه، وأن السكان ليس لهم من الأمر شىء، على حد وصفه، بل يتعجب من تصريحات بعض المسؤولين بضرورة إخلاء العقارات الآيلة للسقوط، فى حين أنهم لا يذكرون شيئا عن البدائل لهؤلاء السكان.


البوادر تقول إن الشتاء القادم قارس لا محالة، أمطار غزيرة، برق ورعد وأمواج عاتية، ولكن ليت الأمر يتوقف عند هذا الحد، فالبرد يهزمه العيش فى غرفة صغيرة تتكدس فيها الأجساد، فمن أين لها بمصدر للهواء، أما الأمطار فقد اعتاد عليها «الإسكندرانية» كما اعتاد السمك البحر، وهم ليسوا من سكان العقارات المطلة على البحر ليخافوا من الأمواج العاتية، لذا هم لا يخشون كل ذلك ولكن الخوف، كل الخوف، من عدم تحمل غرفهم ذات الجدران المتشققة والأخشاب المتآكلة لبرد الشتاء.

«كرموز».. قرارات رسمية بالإخلاء الفورى والترميم.. و«يبقى الوضع على ما هو عليه»

 

«إخلاء جميع السكان فوراً» أو «إزالة طابق أو اثنين» و«ترميم العقار».. جمل ستطالعها عيناك عند قراءتك أى تقرير رسمى يحمل نتائج معاينة لجنة فحص المبانى والمنشآت الآيلة للسقوط للعشرات من العقارات فى «كرموز»، الأهالى هناك يحفظون تلك التقارير إما فى جيوبهم أو فى أكياس لا تفارق أيديهم، فهم ينتظرون انهيار عقاراتهم تلك بين الحين والآخر، بعضهم يفترش الشارع خوفاً من الاهتزازات المتكررة، وآخرون يتحركون داخل غرفهم الخشبية بحساب، ممنوع على الأطفال الحركة هنا، والجرى أو القفز على الأسرة من المحظورات، واستضافة الجيران والأصدقاء خطوة غير مضمونة، فالحركة هنا بحذر، والعيون تغلق ولا تنام، واليوم يمر كالسنة، والغد مملوء بالمخاوف.


كان لتوه عائدا من «الحى»، حاملاً عقد إيجار غرفته وتقريرًا مفصلا عن حال العقار الذى يسكنه بشارع الصفوانى، ولكن «كالعادة مفيش جديد»، على حد وصفه، «تلف شديد بالأسقف وسقوط جزء من سقف الدور الأرضى وهبوط شديد بالأرضيات وشروخ بالحوائط وتلف بالسلم»، تلك كانت نتيجة معاينة الحى للعقار رقم 12 بحى كرموز، الذى يسكن غرفة منه «محمد إبراهيم» ووالدته.


المنزل بدا كأنه مغارة مهجورة، فالأخشاب دابت، والسلم صعوده كاد أن يكون من المستحيلات، وبعض الجيران اضطروا إلى المبيت لدى أقاربهم خوفا من الانهيارات، ولم يجد «محمد» أمامه سوى أن يرسل والدته للمبيت لدى أخيه وزوجته، بعد أن تكررت الانهيارات فى العقار، وأصبحت الاهتزازات إحدى عاداته، يقول محمد: «أنا شاب ولو حصل أى حاجة ممكن أجرى أو أنط من البلكونة لكن أمى ست كبيرة هتعمل إيه».


تقرير المعاينة الذى صدر بتاريخ 20/5/2009 كتب فيه قرار اللجنة المشكلة بالمحافظة للمنشآت الآيلة للسقوط، وجاء ليؤكد أنه يستوجب إخلاء جميع السكان فور الإعلان بالإزالة وشهرين للترميم.


الحال ذاته يعيشه محمد محمد سليمان فى غرفته مع بناته الخمس فى حارة المرصفى، فالعقار الذى يسكنون فيه به تلف بالأسقف وشروخ بالحوائط وهبوط بالأرضيات، كما أكدت لجنة معاينة وفحص المبانى والمنشآت الآيلة للسقوط التابعة للمحافظة، ولكن صاحبة العقار لم تجد أمامها فور صدور هذا القرار غير أن تقدم فى السكان شكاوى أملا فى خروجهم منه، على حد قوله، ولكن «أنا أب لخمس بنات ليس لنا مأوى غير تلك الغرفة، رضينا بسكنها وأن نتقاسم دورة المياه مع جيراننا، لأننا لا نستطيع تحمل نفقات الإيجار الجديد، والآن أصبح العقار آيلا للسقوط، وربما نصحو يوما ونجد أنفسنا تحت أنقاضها»، وتابع الأب قائلا: «قرار لجنة المعاينة الذى صدر منذ عامين ونصف العام جاء بأنه يستوجب إزالة الطابق الثالث من العقار وترميم بقيته، وإلى الآن لم يتحرك أحد أو يلقى لنا بالا، بل إن بعض المسؤولين من الحى يأتون ليلقوا نظرة على المنزل ويرحلوا دون أن يعطونا حلولا، وكأنهم يأتوا إلينا للتأكد أننا مازلنا على قيد الحياة ليس أكثر».


وكأنها توائم متشابهة فيصعب عليك أن تفرق بين عقار وآخر، فالأخشاب جميعها متهالكة، والغرف صغيرة أسقفها مائلة، ودرجات السلم بالية، الأطفال يلعبون فى الشوارع، والآباء يذهبون لأعمالهم ويتركون قلوبهم معلقة هنا، والأمهات لا حديث لهن سوى عن الشتاء القادم ولا أمل لهن إلا فى رحمة الله الواسعة بأن تحفظهم وتصون لهم أبناءهم وأن يمر الشتاء على خير.


تتذكر «زينب» جيداً يوم أن سمعت عن انهيار منزل بـكرموز، فتركت حصة العلوم وهرولت خارج المدرسة وقد غمرت عينيها الدموع، كانت كلما اقتربت من منزلها زادت دقات قلبها أكثر، فقد تركت والدتها فى المنزل وحدها، والسقف انهار منذ بضعة أيام، ولولا العناية الإلهية وتدخل الجيران لبقيت الأم تحت الأنقاض، فهل يتكرر الأمر مرة أخرى، وهل ستنقذ العناية الإلهية والدتها هذه المرة أيضا، وما إن وصلت الابنة ذات العشر سنوات إلى منزلها ووجدته على الحال الذى تركته عليه، حتى هدأ قلبها، وأسرعت لتدفن نفسها بين ذراعى والدتها وشكرت الله أن الانهيار هذه المرة لم يكن من نصيب غرفتهما الصغيرة.


كانت تجلس القرفصاء على الرصيف المقابل لغرفتها مع بعض جيرانها، تحمل فى يديها دواءها، وفى اليد الأخرى كيسا أسود مربوطا بإحكام، تحمل فيه عقد إيجار غرفتها، وصورة بطاقتها الشخصية، فتلك هى أغلى مقتنياتها، وعليها أن تحفظها فى حال سقط سقف غرفتها مرة أخرى، كما تقول، بل إن الحاجة «منى» تخاف النوم فى العقار، بعد أن تكررت به الاهتزازات، ومالت أسقفه جميعها، وبات انهياره أمرا لا مفر منه، فتضطر إلى البقاء خارج الغرفة طوال النهار، والمبيت لدى أحد الجيران طوال الليل، تصف الحاجة منى حالها قائلة «إحنا عاملين زى إللى عايشين ميتين مش كفاية إننا ساكنين فى أوضة وبنشترك مع 3 أسر فى الحمام لا كمان الأوضة دى هتقع»، وتقاطعها إحدى جاراتها قائلة «كلما سمعنا عن انهيار عقار فى الإسكندرية نسأل أنفسنا هل سنكون نحن اللاحقين ومتى سيكون هذا، حتى إن أطفالنا يخافون أن يناموا الليل حتى لا يستيقظوا على صوت الانهيارات».


بدا عليه أنه لم يتجاوز العاشرة، وقف مرتديا ملابس شديدة التواضع، يحمل بعض الطين من الأرض ويضعه على الشروخ التى شققت جدران منزله، كانت بالنسبة له مجرد لعبة، ولكنه كان كأنه يرسم بكفيه الصغيرتين لوحة فى مخيلته، يحاول أن يصنع منزلا بلا شروخ، وحياة بلا خوف، وكلما سقط الطين منه على الأرض، عاود الكرة من جديد، وكأنه يرمم فى أحلامه «الأمان» المنهار.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية