نوجه اللوم لأنظمتنا المتتالية بأنها لا تملك مخططات واضحة طويلة المدى لحياتنا وتطوير دولتنا ومجتمعنا، وهذا اللوم يحتوى على أمرين مهمين: الأول صحته بشكل نسبى واضح وكبير، والثانى الظلم الذى تواجهه هذه الحكومات المتعاقبة بهذا الاتهام.
ذلك لأن الأمر ببساطة هو أن الحكومات والأنظمة هى المولود الشرعى للمجتمعات وثقافتها. لذلك عندما نجد مسؤولا يرفض أن يضع تصورات لأبعد من مرحلة مسؤوليته، أو عندما يرفض توقيع قرار لأبعد من فترة وجوده فى منصبه، فإنه هنا لا يخالف ما نشأ وتربى عليه منذ كان طفلا صغيرا وحتى صار مسؤولا فى مجتمع لا يعرف ما يسمى ثقافة الْيَوْمَ التالى.
من منا يعلم ماذا سيفعل الصيف المقبل؟، كم واحداً بيننا يخطط لإجازته فى نصف العام المقبل؟، هل قرر أىٌّ منا ما إذا كان مسافرا أو زائرا لأهله أو باقيا فى مدينته أو بلدته؟، كم واحداً منا يخرج من بيته مع عائلته يوم إجازته وهو يعلم ماذا سيفعل؟، وما هو مخطط اليوم؟، أظن أن الإجابات عن كل هذه الأسئلة لن تكون مفاجئة، لأن الإجابة التى أتوقعها أن معظمنا لا يعلم أو لم يقرر ولم يخطط لما سوف يفعله، بل أظن البعض منا يمكن أن يفاجأ بالأسئلة ذاتها.
للأسف الشديد، فإن وضع نظام محدد وخطط واضحة لخطواتنا المقبلة هو الأمر الأكثر استبعادا، هذه مسألة نعانى منها على المستوى الشخصى ومستوى الأفراد، ومستوى التعليم ومستوى التربية، نترك الأمور والأيام تقودنا ولا نعطى لأنفسنا القدرة أو الرغبة أو الإرادة فى أن نقود نحن الأيام، نضع أنفسنا فى موقف رد الفعل فى معظم الحالات والمواقف، نترك الأحداث تداهمنا والأيام تمر بنا وتتخطانا ولا نضع مخططا لمواجهة تلك الأحداث أو الاستفادة من الأيام المقبلة قبل أن تأتى.
هذه الثقافة هى التى تنتج لنا أياماً بلا خطط، وأحداثا نجد أنفسنا دائما فى الموقف المتفاجئ بها، لنكون فى معظم الأحيان فى موقف رد الفعل وليس موقف الفاعل، فى موقف من تقوده الأحداث، وليس موقف من يسيطر عليها ويدفعها لمصلحته أو يقلل من آثارها السلبية، إن كان لها آثار سلبية.
ليس ما فات فقط هو كل الصورة، ولكن الجانب الآخر منها هو التالى لتعاملنا مع موقف أو أزمة، نحن نتفاعل مع الأزمة أو الموقف لحظة مواجهتنا له، نتحمس أحيانا، نتصرف بشكل صحيح أحيانا أخرى، نتغلب على الموقف أو نتجاوز الحدث، ننجح أحيانا ونفشل أحيانا، ولكن الأكيد أن كثيرا منا لا يعرف ما هى الخطوة التالية، أو ماذا بعد، ليس هذا فقط، بل إن بعضنا يمكن أن يقرر أن يخرج من بيته ثم يقرر فيما بعد ماذا سيفعل، نفتقد هنا ما يمكن أن نطلق عليه «ثقافة اليوم التالى»، أو «ثقافة وماذا بعد»، وهذه مرتبطة بالمسألة الأولى، المرتبطة بالتخطيط المسبق لأيامنا ومواقفنا، أو هى الوجه الآخر لها. تواجهنا الأزمة أو المشكلة أو الكارثة أو الموقف ونتخذ رد فعل سريعا قد يكون موفقا، أو غير موفق، دون أن نقرر وماذا بعد، أو ماذا سنفعل الخطوة التالية، أو ماذا سيكون رد فعلنا لو أننا فشلنا هنا أو نجحنا.
لست هنا فى مجال جَلد الذات أو نقد من أجل النقد، ولكن فقط أردت أن أضع صورة لنا فى جزء من شخصيتنا وثقافتنا وسلوكنا الخاص فى مواجهة أنفسنا، أردت أن أرسم هذه الصورة لنتوقف أمامها لحظة لعلنا نعترف ونقول: «هذا صحيح»، وأتمنى أن يكون السؤال التالى: وما العمل؟ كيف يمكن تخطى ذلك وتصحيحه؟.
كما أضم صوتى إلى كل المنتقدين بالأعلى، فإننى أتمنى البحث فى الأسباب التى تؤدى إلى أن يكون هذا القدر من اللا تخطيط أحد مكونات شخصيتنا، هذه مهمة، أظن يصلح أن نطلق عليها قومية أو وطنية أو أى تعبير يحمل هذه المعانى، البحث فى أسباب غياب وجود حياة مخططة لنا نحن أفراد المجتمع.. علاج هذا الخلل سوف يؤدى بالضرورة إلى علاج الخلل الأعلى فى السلطة التى تدير هذا المجتمع، لأنها من أفراد هذا المجتمع وليست غريبة عنه، البحث فى أسلوب التعليم والتربية والتكوين والتنشئة والإدارة والعلاقات الأسرية، البحث فى كل هذا يمكن أن يقودنا إلى اكتشاف الأسباب والبدء فى حلها، حتى ولو كانت نتائج وحصاد هذا الحل سوف تجنيه أجيال مقبلة.