«رام إيمانويل»
إذا كانت هناك نقاط إرشادية لنهج الإدارة الأمريكية لصناعة السيارات، فقد وضعها أوباما وكلف رام إيمانويل بتنفيذها وكان فى ذلك الوقت رئيس موظفى البيت الأبيض قبل أن يصبح عمدة شيكاجو. «لا نريد أن تذهب أزمة خطيرة مثل تلك سدى» من الجمل التاريخية التى قالها إيمانويل عندما اجتمع مع المسؤولين التنفيذيين فى شركات صناعة السيارات خلال الأسابيع القليلة الأكثر اضطرابا عقب انتخابات عام 2008 التى جاءت من نصيب أوباما. وأضاف حينها: «إنها فرصة لفعل الأشياء التى لم يكن من الممكن القيام بها من قبل». فى هذا الوقت كانت البلاد تواجه العديد من الأزمات؛ أزمة الإسكان تدمر الثروة، وتصاعد تكاليف الرعاية الصحية، ونظام مالى فى حالة يرثى لها، وارتفاع معدلات البطالة، والحروب الدامية فى نقطتين ساخنتين حول العالم. علاوة على كل ذلك، كانت لصناعة السيارات أزماتها الخاصة، چنرال موتورز ومجموعة كرايسلر وفورد أيضا. هناك بالفعل مشكلات قائمة داخل العامود الفقرى لتلك الشركات، أضف إليها تغير المناخ فى صناعة السيارات العالمية والذى كان بمثابة وحش مجهول ضخم يحيط بتلك الشركات، وزاده من اعتماد البلاد على النفط المستورد والمنافسة التى كانت فى ذلك الوقت تسيطر عليها تويوتا.
قوانين جديدة!
وإيمانا بمقولة ايمانويل، لم يضيع أوباما أى وقت، ففى اليوم السادس لولايته، طلب الرئيس الجديد من وزارة النقل وضع اللمسات الأخيرة على قواعد معدلات استهلاك الوقود الجديدة لعام 2011، وطلب من وكالة حماية البيئة سن قوانين تسمح لكل ولاية بوضع القواعد الخاصة بها من حيث معدلات تلويث الهواء والبيئة. فى حين تشبثت چنرال موتورز وكرايسلر بشريان الحياة الذى كانت قد مدته لهم إدارة بوش. وقال أوباما وقتها: «ليس هدفنا زيادة الأعباء على صناعة تعانى بالفعل، بل إنه مساعدة شركات صناعة السيارات الأمريكية لأن تستعد للمستقبل». كانت شركات صناعة السيارات قد حاربت بشدة ضد محاولات سابقة لرفع المعدلات المطلوبة من الاقتصاد فى استهلاك الوقود لأن ذلك يضيف عليهم أعباء تبدأ بتطوير محركات جديدة وتسويقها وتغيير خطوط الإنتاج وسلاسل الموردين للتماشى مع تلك القواعد التى تصبح أشد قسوة عاما تلو الآخر، ولكن ما ساعدهم على تقبل ذلك من أوباما هو وعد قدمه لهم أن تكون تلك المعدلات والمعايير الخاصة بها متناسقة فى جميع أنحاء الولايات المتحدة، ما يعنى أنهم قادرين على التفرقة بين نفس السيارات ونفس المحركات فى كل المناطق وبذلك تمكن أوباما من رفع المعايير وفى الوقت ذاته كسب تأييد صانعى السيارات، كان هذا واضحا فى بيان چنرال موتورز حيث جاء فيه على لسان الرئيس التنفيذى فريتز هندرسون: «چنرال موتورز وصناعة السيارات ستستفيد من وجود المزيد من الاتساق عند وضع الخطط الخاصة بمنتجاتنا».
إعادة تقييم
بحلول منتصف مايو من العام نفسه، كان أوباما مع المسؤولين التنفيذيين من 10 شركات صناعة السيارات فى حديقة الورود بالبيت الأبيض، ويقترح عليهم بعض القواعد التى سترفع معايير استهلاك الوقود إلى 15 كم لكل لتر فى موديلات عام 2016. بعد ذلك بعامين، ارتفعت المعايير مرة أخرى لتصبح أكثر من 21 كم/لتر بحلول عام 2025. بحلول منتصف المدة الرئاسية القادمة، سيكون هناك إعادة تقييم للمعايير وتحديد أهداف جديدة قد تكون أعلى أو أقل، وبالرغم من بعض التوتر الذى يتعرض له صانعى السيارات بشأن الوقت والتكاليف، أشارت كافة الجهات المعنية إلى أنهم على التزام تام بالاتفاق الذى تم مع إدارة أوباما. القواعد الجديدة، أشعلت موجة من أعمال البحث والتطوير، والتى بدورها ضخت استثمارا ضخما إيذانا ببدء عهد جديد من الابتكار فى المحركات والمواد خفيفة الوزن، نتج عنها F-150 المصنوعة بالكامل من الألومنيوم. اليوم ما يقرب من نصف موديلات عام 2015 تستخدم محركات الحقن المباشر، مقارنة بـ 2% عام 2008، بينما قفز إنتاج ناقلات الحركة بست سرعات إلى 57% من 19%، وذات السرعات السبع من2% إلى 17%. وبالإضافة إلى ذلك، الشركات الأمريكية تنتج الآن 12 سيارة كهربائية تعمل بالبطاريات و13 بمحركات هجينة، وفقا لوكالة حماية البيئة.
إفلاس وتسريح العمال.. إعادة الهيكلة!
وبطبيعة الحال، فإن القليل من هذه الاستثمارات كانت سترى النور دون عمليات الإنقاذ التى قادتها الحكومة لچنرال موتورز وفورد وكرايسلر، التى لم تحيى فقط ثروات الشركات بل أيضا سلاسل التوريد التى تخدم هذه الصناعة برمتها. كانتا چنرال موتورز وكرايسلر قد سارعتا لعدة أشهر بإعادة هيكلة من تلقاء نفسها، ولكن إدارة أوباما أخذت الدفة بعد أن وجدت أن جهود الشركات من تلقائها لم تكن كافية، فورد كان وضعها أفضل بكثير، فقد اعتمدت على فرعها الأوروبى. وشهدت تلك الفترة حالات الإفلاس السريعة وتم تسريح العمال وقتل بعض العلامات التجارية وإغلاق بعض المصانع وشركات التوزيع. وحتى يومنا هذا، يقول العديد من النقاد أن الإدارة أساءت العمل بقانون الإفلاس، وأن مدى تورطهم فى شؤون الشركات كان سابقة خطيرة، حتى وإن كانت الصناعة باتت أفضل حالا اليوم. لكن رأى الإدارة كان مختلفا وهذا ما أشار له أوباما عندما عاد فى 2015 ليشير إلى تلك الشركات على أنها كانت أشبه بالمريض: «كان هناك اعتراف واضح بأننا لن نستطع الحفاظ على العمل كالمعتاد، هذا ما جعلنا ننجح. لو كنا وضعنا المزيد من الأموال فقط دون إعادة هيكلة هذه الشركات، فإننا ربما شهدنا نزيفا متباطئا، ولكننا لم نكن لنشفى هذا المريض».
تدخل الحكومة فى إدارة الشركات
الأزمات التى تواجه الصناعة لم تنتهى عند هذا الحد، بل فى أنحاء أخرى كانت لا تزال فى حيز التكون، وفتحت مجالا جديدا لتدخل الحكومة فى شؤونها. فى 2014 اتخذت الأمور منحنى جديد، بمشكلات أمان وسلامة متعاقبة، لم تكن جديدة، ولكن الجديد كان خضوع الإدارة الوطنية للسلامة على الطرق لرئاسة جديدة تحت سيطرة مارك روزكايند، والذى فى عهده لم تعد الإدارة مجرد رقيبا على الشركات لا يأخذ خطوات إصلاح سوى كردود أفعال كما كانت من قبل، بل استدعى روزكايند حقوقا وسلطات كانت تمتلكها الإدارة ولكن نادرا ما قامت بتطبيقها، فيما بدا فى ذلك الوقت وكأنه تشديد لقبضة أوباما على صناعة سيارات كانت تتساهل معها الإدارات السابقة ووضعا للأمور فى مجراها الصحيح. لم تكن تلك مجرد قرارات، على مدار السنوات الثمانى شهدت صناعة السيارات الأمريكية بعض الأحكام ضد شركات السيارات لم تحدث من قبل، بدأت بـBMW التى تم الحكم عليها فى 2015 بتشغيل شركة استشارية محايدة بعد فشلها فى استدعاء 30 ألف سيارة مينى تالفة فى الوقت المناسب. ثم فيات كرايسلر وتويوتا التى حصلت على حكم مشابه بسبب استدعاءات لم تستطع الشركات إكمالها، ثم جنرال موتورز التى لا تزال تقف أمام القضاء بسبب أعطال مفاتيح التشغيل كما وافقت هيونداى كيا على انفاق 50 مليون دولار لإصلاح الضرر الناتج عن نشر معدلات غير سليمة من استهلاك الوقود. فى عهد إدارة أوباما، واجهت أيضا السوق الأمريكية اثنين من أكبر الفضائح فى هذا القطاع، الأولى هى قضية تاكاتا التى لا تزال واحدة من أكبر القضايا المطروحة أمام الإدارة وتحاول التصدى لها، وفضيحة فولكس ڤاجن الخاصة بانبعاثات محركات الديزل، والتى اعترف بها أحد مهندسى الشركة فيها بالفعل بالتآمر والاحتيال ضد الدولة.
خطة أوباما.. طموحة لكن!
أما بالنسبة للمستقبل، فلم يمكن أوباما من تحقيق خطته الطموحة بوضع مليون سيارة كهربائية على الطريق قبل حلول 2015، بالرغم من ضغوطه المستمرة لتوفير برامج قروض التمويل الفدرالية للشركات الناشئة التى تعمل على تلك التقنيات. ولكن وقف أمامه عدم تقبل المستهلكين حتى الآن للسيارات الكهربائية بسبب عدم اعتماديتها والحاجة لإعادة شحنها على مسافات طويلة، على العكس من السيارات التقليدية التى تتوافر محطات الوقود لخدمتها فى كل مكان. وبينما تتحرك الصناعة ببطء نحو السيارات الكهربائية طويلة المدى مثل سيارة چنرال موتورز الصغيرة Bolt تهيمن على هذا القطاع من السوق كل من تيسلا ونيسان، بينما يمكننا وصف صناعة السيارات الأمريكية الآن كونها فى مرحلة انتقالية، ولعل التوجه العالمى نحو سيارات SUV المدمجة لم يكن فى صالح أية سوق أكثر من الأمريكية، فالأمريكيين يحبون السيارات الكبيرة بشكل تقليدى، ولكن التوجه نحو استهلاك أفضل للوقود جعل قطاع SUV المدمج من أنجح القطاعات التى تجمع بيع محركات صغيرة وسيارات تعطى الوحى بالكبر. ويمكننا القول أنه على مدار السنوات الثمانى السابقة، استطاعت إدارة أوباما أن تنقذ صناعة السيارات وتوازنه مع إدارة موارد الوقود والبيئة دون أن تسقط أى من الكرات، ووضعت صناعة السيارات الأمريكية على بداية الطريق الصحيح نحو مستقبل مضمون، بإعادة هيكلة شركاتها، ووضع خطط لإنتاج سيارات صديقة البيئة، والاستثمار فى الأبحاث والتطوير التى تعطيها القدر الكافى من العلم والمرونة لتتفادى ما قد يتغير من المناخ المحيط بها.