على شاشة التليفزيون في الصالة أو غرفة المعيشة، كانت الأسرة كلها تشاهد مع ملايين المشاهدين اختيارات معدي برامج القنوات المحلية في أوقات بعينها. بعد انتشار الفضائيات أصبح هناك المزيد من الاختيارات بين القنوات التي وسعت اختياراتها لجذب المشاهدين. أفلام الفيديو ونوادي الاستعارة في مرحلة سابقة مثلت تنوعا في اختيارات الأفلام وتحكما في وقت المشاهدة. تتيح السينما اختيارات أقل نذهب إليها في أوقات بعينها ونتبع عادات مشاهدة جماعية في دار العرض.
مع الكمبيوتر الشخصي والإنترنت وثورة تقنيات التحميل ومشاركة الملفات تنفتح الاختيارات إلى ما لا نهاية وتتحول المشاهدة إلى عادة أكثر فردية وحرية في مكان حميم هو الغرفة الخاصة التي يستقر فيها الكمبيوتر.
هكذا كان تطور رحلة مشاهدة الأفلام في العقدين الأخيرين بالنسبة لشباب كثير، وبالتوازي معها تشكلت ثقافته السينمائية.
في بداية هذه الرحلة، كان اهتمام أحمد عبد الوهاب، الطالب بالأكاديمية العربية، أكثر بالأفلام العربية من خلال التليفزيون. اختيارات الأفلام الأجنبية في التليفزيون في أوقات صباه كانت محدودة وقليل منها ما كان جذابا بالنسبة له. الأفلام العربية حتى متوسطة القيمة غالبا ما تتحدث عن تفاصيل يراها قريبة منه أكثر. ولكن بمرور الوقت وانتشار الفضائيات بدأ يتعرف على أفلام أجنبية تعجبه وبدأ يسجل بعضها على جهاز الفيديو.
مثله كان أحمد أبو الفضل، طبيب الأسنان الشاب الذي يدرس الآن بالسنة الأولى في معهد السينما. كان أحمد يجهز الفيديو والشريط أثناء عرض الأفلام الأجنبية المميزة. يذكر بشكل خاص برنامج «نادي السينما» الذي كانت تقدمه درية شرف الدين ويعتقد أنه كان شديد التأثير في ثقافته السينمائية وآخرين من محبي السينما. كان ينتظره متوقعا أن يشاهد فيلما من مستوى رفيع وموضوعه شيق. وكان ينتظر المقدمة التي تتحدث فيها عن الفيلم والمناقشة التي كانت تجريها مع ضيف ما عقب عرضه.
أفلام نوادي الفيديو مثلت تحررا بعض الشيء من المعايير الرقابية الأكثر أسرية للتليفزيون.
يقول أحمد أبو الفضل إن أسرته التي كانت وقتها منغلقة بعض الشيء توجست من استعارة الأفلام من نوادي الفيديو. ولكن على كل حال لم تطل فترة الفيديو. لأن استعماله للكمبيوتر الشخصي نقل اهتمامه من شريط الفيديو إلى الهارد ديسك.
قبل انتشار الإنترنت فائق السرعة، كان تبادل الأفلام بين الشباب بتوصيل الهارد ديسك إلى الكمبيوتر هو الطريقة الشائعة. وكان مصدر الأفلام هو مجموعة الأفلام الأكثر جماهيرية وشهرة التي تم سحبها من نسخ «دي في دي» قليلة تم تسويقها على نطاق واسع.
يتحدث بشرى محمد، الذي يشارك أبو الفضل في تحرير مدونة «مشاهدات سينمائية» عن تحكم أنواع معينة من السينما في ذوقه أول ما اشترى الكمبيوتر، وهي الأفلام التي أخذها من أجهزة أصدقائه بهدف الفضول. معظمها كانت أفلاما جماهيرية تجارية، في حين يفضل بشرى الآن أنواعا أكثر انتقائية من الأفلام يراها أرفع في مستواها الفني.
«أفلام أمريكية رعب وأكشن مع قليل من الأفلام الآسيوية»، يجمل أبو الفضل الأنواع التي تناقلتها الكمبيوترات ما قبل مرحلة التحميل.
في بعض المنتديات التي أنشأت خصيصا أقساما لتبادل الأفلام، يضع كل عضو في المنتدى قائمة الأفلام المتوفرة لديه ويتعارف الأعضاء ويتلاقون إن سمحت المسافات بينهم ويتبادلون الأفلام. مثل ذلك نافذة ما لمحبي السينما للحصول على أنواع غير جماهيرية من الأفلام قبل أن تتاح بشكل أسهل عبر التحميل وبرامج المشاركة التي تتطلب سرعة أكبر للإنترنت.
البحث عن مصدر الانبساط
ولكن الإنترنت قبل أن يتيح تحميل الأنواع البديلة من الأفلام، كان نافذة للمعلومات عن السينما. عندما اشترك أحمد أبو الفضل في الإنترنت أواخر التسعينات بدأ يقرأ بكثافة عن السينما. بدأ أولا يهتم باخبار الممثلين الذين جذبته أفلامهم، وبعد المزيد من القراءة بدأ يهتم بالمخرجين.
على حد تعبيره، بدأ يحدد بدقة من هو المسؤول عن الانبساط والمتعة السينمائية التي يجدها في هذا الفيلم أو ذاك، لينتظر الإنتاج القادم له.
السرعة الفائقة للإنترنت قطعت مرحلة الانتظار فأصبح محبو السينما يتجهون مباشرة ويحصلون على ما يريدونه من أفلام. وبدأت مرحلة برامج مشاركة الملفات وأشهرها الآن برامج «التورنت».
يذكر أحمد عبد الوهاب أنه في اليوم الأول لاشتراكه في DSLعام 2006 قام بتحميل فيلم Taxi Driver، بدأ التحميل قبل نزوله إلى مشوار ما، وعندما رجع كان الفيلم كاملا على جهازه فشاهده في الليلة نفسها.
قائمة أفضل 250 فيلما في تاريخ السينما الموجودة في «قاعدة بيانات الأفلام على الإنترنت» IMDBمثلت الاختيارات الأولى التي تسابق الشباب المحب للسينما لتحميلها ومشاهدتها. القائمة مرتبة حسب تقييم المشاهدين من كل أنحاء العالم. وبالنسبة لأبي الفضل وعبد الوهاب وبشرى، وآخرين من أصدقائهم محبي السينما، إحدى مراحل تطور ذائقتهم السينمائية.
تفاعلهم عبر المنتديات والمدونات شكل مرحلة أخرى تبادلوا فيها الآراء والتقييمات حول أنواع أوسع من الأفلام، من ضمنها الأفلام الأوروبية وأفلام الشعوب الأخرى، فكسروا حاجز الفيلم الأمريكي.
في 2008 تعرف عبد الوهاب على أبو الفضل في جروب مهتم بالسينما الأوروبية على الفيس بوك. وقبلها تعرف أبو الفضل على بشرى عن طريق «السايبر كافيه» الذي يعمل فيه الأخير. وجد أبو الفضل على أحد أجهزة السايبر كتابات قيمة عن السينما وملفات موسيقى أفلام تقول إن وراءها شخصا مهتما، فسأل وعرف أنها ملفات تخص بشرى الذي يعمل في الوردية المسائية للسايبر فتعرف عليه. في ذلك الوقت كان بشرى واحدا من المدونين المرموقين بين أقرانهم في مجال الكتابة عن السينما.
يقول أبو الفضل إن الإنترنت كوسيط أتاح له ولرفاقه مشاهدة مكثفة بالإضافة لحوارات مكثفة وتبادلا للأفكار. وذلك شكل بينهم ذائقة قريبة وثقافة مشتركة محورها تراث السينما واقتباسات معينة يتندرون بها فيما بينهم يصعب أن يفهمها غير المتابع بكثافة لتاريخ السينما وإنتاجها الحديث.
ولكن الوسيط نفسه أنتج ما يسميه أبو الفضل ساخرا بـ«الشطط والجموح» في مشاهدة الأفلام: «على سبيل المثال. يمكنك أن تجد بين مهاويس السينما شابا يشاهد سينما السبعينيات في أمريكا بالإضافة لأفلام صامتة فقط. كما يمكنك أن تجد بيننا محبين كثرا لفيلم Satan Tangoالذي تبلغ مدته 7 ساعات».
هناك نوع آخر من الشطط والجموح بين هذه المجموعة يتمثل في معدل المشاهدة. فبعضهم يشاهد فيلما يوميا، معظمهم يسجلون ما شاهدوه من أفلام عبر خدمات تقييم الأفلام على الإنترنت، أشهرها Flixster.com.
يتذكر أحمد عبد الوهاب أنه شاهد ما يقرب من 900 فيلم في حين يقول أبو الفضل إنه شاهد حوالى 1500 فيلم.
لا يذكر بشرى عدد الأفلام التي شاهدها ولكنه يقدر أن حصيلة أفلامه يمكن تقسيمها كالآتي: 80% شاهدها على الكمبيوتر و5% في التليفزيون و15% في السينما.
يشترك الثلاثة في أن ذهابهم إلى السينما إما يكون بغرض احتفالي، كنزهة مع الأصدقاء أو الأسرة، أو أن يكونوا بانتظار فيلم لمخرج أو ممثل محبوبا لديهم، ويحتلفون بمشاهدته في السينما ربما رغم توافره على الإنترنت.
شعبية إضافية أم خسائر فادحة
الأفلام الأجنبية غالبا ما تكون متاحة للتحميل قبل نزولها السينما في مصر. أما الأفلام المصرية فإن تسربت سريعا يكون ذلك غالبا عبر نسخة مصورة من السينما بجودة قليلة لا ترضى محبي السينما. وبعد فترة يتم تبادل نسخة «سي دي كواليتي» على الإنترنت لأن ثقافة شراء الــ«دي في دي» محدودة في مصر بعكس الولايات المتحدة وأوروبا.
نسخة الــ«سي دي كوايلتي» التي تباع في المكتبات وأكشاك الجرائد ثمنها في المعتاد ما بين 15 و 20 جنيها، في حين يبلغ ثمن نسخة «دي في دي» عشرة أضعافها في المتوسط، فأسعارها تتراوح بين 100 إلى 200 جنيه، وهو ما يجعلها صعبة المنال بالنسبة للكثيرين.
ورغم شكوى صناع السينما من الخسائر التي تصيبهم من جراء تبادل الأفلام على الإنترنت أو ما يسمونه «قرصنة الأفلام»، إلا أن الشبان الذين لا ينكرون ذلك التأثير يقللون من ضخامته. ففي رأي أحمد عبد الوهاب أن تبادل الأفلام على الإنترنت يوسع جمهور السينما ويضيف شرائح جديدة لا تهتم بالسينما ولا تسعى إلى الأفلام أصلا، وأن جمهورها الأساسي يذهب إليها كنزهة جماعية أو حبا في الصورة المميزة الجيدة في دار السينما أو تسابقا لرؤية الفيلم الجديد لبطل أو مخرج محبوب، وهو ما لا تؤثر عليه توافر نسخ على الإنترنت إلا بقدر ضئيل.
يعترض تامر عزيز، مسؤول وحدة حماية الملكية الفكرية في غرفة صناعة السينما، ويقول إنه وفق تقديرات غرفة صناعة السينما تبلغ الخسائر 30 مليون دولار سنويا على أقل تقدير بسبب عمليات القرصنة. يوضح عزيز أن التقديرات ارتكزت على الفارق بين الأرباح المتوقعة في دراسة الجدوى للأفلام كمشاريع اقتصادية والأرباح الفعلية التي حققتها واسترشدت بأرباح أشهر المواقع التي تجني أموالا من القرصنة.
بشكل ما يستبعد أحمد عبد الوهاب وأبو الفضل مثل كثيرين غيرهم من محبي السينما أن يكون نمط استهلاكهم للسينما ضارا بها، ويعتقدون أن هناك أساليب يمكن لصناعة السينما أن تتجاوز بها التأثير المحدود – في رأيهم - للقرصنة والتحميل عبر الإنترنت، وأن تعوض ذلك الانسحاب إلى شاشة الكمبيوتر الشخصي بدلا من الذهاب إلى دور السينما، مثلما تتجاوز شركات إنتاج الموسيقى مشكلتها المشابهة بطرق أخرى ترتكز على الشعبية التي تصنعها التداول الشعبي الكثيف للتسجيلات الرقمية.
ولكن قبل حسم هذا الخلاف ربما يجب أن ينتبه صناع السينما إلى الأنماط الجديدة المختلفة لاستهلاكها لدى محبيها الشباب. ويبدو أنها لن تكون مهمة سهلة، فبينما فضل بشرى انتظار نسخة جيدة مترجمة إلى العربية من فيلم كوينتين تارانتينو الأحدث Inglorious Bastardsليشاهدها على الكمبيوتر، ذهب أحمد أبو الفضل وشاهده مرتين في السينما تشوقا لإنتاج أحد المخرجين المفضلين لديه واستمتاعا بالصورة الكبيرة ذات الجودة العالية على شاشة السينما.
*ضمن ملف سينما على شاشة كمبيوتر