حين تحبُّ أطفالَك وأقرباءك، فأنتَ تشبه القطةَ التى تحبُّ أولادها ثم تفترس الفأر، وتشبه الأسدَ الذى يحنو على أسرته، ثم يفترس الظِّباء. ولكى تعلو درجةً عن مرتبة القطة والأسد وتستحق لقب: «إنسان»، فعليك تجاوُز عشيرتك ليظلّل حبُّك مَن لا تعرفهم. فى هذا يقول الألمانى «مارتن لوثر»، الذى أنقذ أوروبا من صكوك الغفران التى ضحك بها رجالُ الدين المسيحى على بسطاء الناس فى القرون الوسطى: «الإنسانُ العادى يتوافق مع الجماعة التى ينتمى إليها. أما الإنسانُ الممتاز فيشعر بانتمائه للبشرية جمعاء؛ فيتجاوز حدودَ الجماعة التى نشأ فيها ليخاطب الإنسانية كلها بلغة الحبّ».
يوم ٤ نوفمبر عام ١٩٨٨، مرَّ نعشٌ لا يسير وراءه إلا ثلاثةُ رجال! فاندهش أحدُ المارّة وسأل عن المتوفى الذى خلت جنازتُه من المشيعين! فعلم أنه عجوز فى السبعين، عاش عمرَه دون أن يحبَّ أحدًا، فلم يحبّه أحدٌ. فكتب الرجلُ فى عموده «فكرة» بجريدة الأخبار، يستأنس برأى قرّائه فى أن يجعل ذلك اليوم «عيدًا للحب»، لكى نتذكّر ونُذكّر بعضنا بعضًا بقيمة الحب. وكان «عيد الحب المصرى» الذى أطلقه «مصطفى أمين».
مرّ علينا قبل أيام عيدُ الحبِّ، والحبُّ غائبٌ! أين فرّ؟ وكيف سمحنا له أن يفرّ؟! لصالح مَن تركنا البغضاءَ تنتعشُ فى أركان وطننا؟
الكراهيةُ مرضٌ قاتل، الحمد لله أن عافانا منه. نقول: «أحبّوا بعضكم بعضًا يحببكم الله، لكى ننعش فى قلوب الناس تلك الَملَكة السماوية التى أمرنا اللهُ بها، فأمعنّا فى قتلها داخل أرواحنا حتى وصلنا إلى ما نحن فيه الآن من ويل ودمار!».
يُحكى أن الملكَ الفارسى أنوشيوان أعلن عن جائزة قدرها ٤٠٠ دينار لمَن يقول كلمة طيبة. ثم تجوّل فى أرجاء مملكته بصحبة حاشيته. فشاهد فلاحًا عجوزًا تخطّى التسعين، يغرس شجرة زيتون، فسأله الملكُ متعجّبًا: «هل تغرس شجرةً لن تأكل منها، إذ تحتاج إلى عشرين سنة حتى تُثمر، وأنت طاعنٌ فى العمر، ودنا أجلُك؟!» فقال الفلاحُ: «السابقون زرعوا؛ ونحن حصدنا. كذلك نزرعُ ليحصد اللاحقون». فقال الملكُ: «هذه كلمةٌ طيبة»، وأمر له بأربعمائة دينار. أخذها العجوزُ وابتسم. فسأله الملكُ: «لماذا ابتسمت؟» قال الفلاحُ: «شجرةُ الزيتون تثمر بعد عشرين عامًا، وأثمرت شجرتى قبل مولدها». فقال الملك: «أحسنت! وهذى ٤٠٠ دينار ثانية لقاء هذه الكلمة الطيبة». فأخذها الفلاحُ وابتسم. فسأله الملكُ: «ولمَ الابتسامةُ الجديدة؟»، فأجاب العجوزُ: «شجرةُ الزيتون تثمر مرةً فى العام، وأثمرت شجرتى مرتين!»، فأمر له الملكُ بأربعمائة دينار أخرى، ثم مضى مسرعًا بعدما ألقى السلامَ على الفلاح. فسأله رئيسُ الجند: «لماذا مضيتَ قبل اكتمال الحديث يا مولاى؟» فأجاب الملكُ: «إن جلستُ إلى هذا الفلاح حتى الصباح، لنفدت خزائنُ الأموال، قبل أن تنفد كلماتُ العجوز الطيبة».
لا أشفقُ على أحدٍ قدر إشفاقى على مَن حرموا أنفسَهم من تلك المتعة الهائلة: «محبة الناس». فالمُحِبُّ المانحُ يستمتع بحبّه وعطائه أكثر مما يستمتع «المحبوب» «الممنوح». لو يعرف الباغضون هول النعمة التى حرموا أنفسَهم منها، لتعجّبوا من قسوتهم على أنفسهم. أولئك لا يتذكّرون قيمة الحبّ إلا لحظة الضعف والانكسار. يشبهون العقربَ الذى شاهده حكيمٌ جالس على ضفة النهر. وقع العقربُ فى الماء، وراح يتخبّط محاولاً النجاة من الغرق. مد الحكيم يده لينقذه، فلسعه العقرب. صرخ العجوز من الألم، لكنه مدّ يده من جديد، فلسعه العقربُ مجدّدًا. وحاول مرة ثالثة، حتى وبّخه صيادٌ قائلا: «ألم تتعظ يا رجل!» فلم ينصت العجوزُ للصياد وكرر المحاولة حتى أنقذ العقرب. ثم سار إلى حيث يجلس الصياد وربت على كتفه قائلا: «طبعُ العقرب أن يلسع، وطبعى كإنسان أن أحبَّ وأغيثَ الملهوف. فهل أسمح لطبعه أن يغلب طبعى؟» أحبّوا تصحّوا. كل سنة والأشرارُ طيبون، والطيبون أكثرُ طيبة.
twitter:@fatimaNaoot