فى أواخر سنة 1862، عاد محمد سعيد باشا «والى مصر» من رحلته العلاجية فى أوروبا إلى مدينة الإسكندرية، وكان المرض قد تمكن من حياته تمكنا، سمم كل ينابيعها، فبات ميئوسا من نجاته، وأخذ الموت ينسج أكفانه، ويسدل حوله ظله. وكما أن الناس، حين تميل الشمس إلى الغروب، يأخذون فى الشخوص إليها ويرقبون مغيبها، وتجيش العواطف فى صدر كل منهم طبقا لميوله وآماله، فهكذا كان المصريون ومستوطنو مصر، والذين تربطهم بها مصالح، ينظرون إلى مغيب حياة «محمد سعيد باشا» وتواريها وراء أفق هذا العالم المنظور، بأعين تختلج فيها عواطف القلوب المختلفة.
أما الأمير إسماعيل فإنه مذ تأكد أن رقدة عمه لرقدة لا يعقبها قيام، وأن الموت بات محتما، ساورته الانفعالات الطبيعية التى تساور كل إنسان فى مركزه، وأخذ ينتظر وهو فى القاهرة أن ترد عليه الأنباء المبشرة بارتقائه سدّة جده العظيم.. محمد على باشا الكبير!.
وكانت قد جرت العادة أن ينعم بلقب (بك) على أول من يحمل إلى الوالى الجديد خبر صيرورة العرش المصرى إليه، وأن ينعم عليه بالباشوية إذا كان يحمل لقب (بك).
فلم يغادر (بسى بك)، مدير المخابرات البريدية (التليغرافات)، مكتبه مدة ثمانى وأربعين ساعة لكى يكون أول المبشرين، فيصبح باشا، ولكن النعاس غلبه فى نهاية الأمر، فاستدعى أحد صغار موظفى مصلحته وأمره بالجلوس بجوار عدة التليغراف، ريثما يذهب هو إلى مخدعه وينام قليلا، وأن يسرع إلى إيقاظه حال ورود إشارة برقية من الإسكندرية تنبئ بانتقال محمد سعيد باشا إلى دار البقاء. ووعده بجائزة قدرها خمسمائة فرنك مقابل ذلك. ثم ذهب إلى مخدعه، ونام على سريره وهو بلباس العمل.
ولم يكن الموظف الصغير الذى أنابه عنه يجهل عادة الإنعام التى ذكرناها، فلما انتصف الليل بين اليوم السابع عشر واليوم الثامن عشر من شهر يناير سنة 1863 وردت من الإسكندرية الإشارة البرقية المنتظرة بفارغ الصبر، فتلقاها الموظف الصغير وأسرع بها إلى سراى الأمير (إسماعيل) وطلب المثول بين يديه.
وكان (إسماعيل) لايزال جالسا فى قاعة استقباله، سهران، يحيط به رجاله، وتسامره هواجسه. فلما رُفع إليه طلب الموظف الصغير أمر بإدخاله فوراً، فأدخل، وأحدقت به أنظار الجميع.
فجثا الرجل أمامه وسلمه الإشارة البرقية الواردة. فقرأها (إسماعيل)، وما إن أتى على ما دُوّن فيها إلا ونهض والفرح منتشر على محياه- فوقعت الإشارة من يده- وشكر الله بصوت عالٍ على ما أنعم به عليه من رفعه إلى سدّة مصر السنية. ثم ترحم على عمه ترحما طويلا. فشاركه رجاله المحيطون به فى فرحه، وتصاعدت دعواتهم له بطول البقاء ودوام العز، وأخذوا يهنئونه ويهنئ بعضهم بعضا.
ثم نظر (إسماعيل) إلى الموظف الجاثى أمامه، (والذى كان قد التقط الإشارة البرقية حالما وقعت من مولاه، ووضعها فى جيبه). وتبسم (إسماعيل) وقال: «انهض يا بك». وبعد أن حباه نفحة من الذهب والمال أذن له بالانصراف.
فعاد الموظف مسرعا إلى مصلحة التليغرافات، لرغبته فى الحصول على جائزة الخمسمائة فرنك التى وُعد بها، زيادة على الذهب الذى أصابه، ودخل بتلك الإشارة على رئيسه (بسى بك) وأيقظه وسلمها إليه. فتناولها بسى بك وقرأها. ثم فتح كيسه بسرعة وأعطى الرجل المبلغ الذى وعده به. ثم أسرع بالبرقية إلى سراى الأمير (إسماعيل)، وهو يرى أنه قد أصبح باشا، وتتلذذ نفسه بذلك. فلما دخل على الأمير وعرض عليه الإشارة قابله (إسماعيل) بفتور وقال: «لقد أصبح هذا لدينا خبرا قديما!».
فأدرك الرجل أن موظفه خانه، وسبقه إلى الأمير، ثم ضحك عليه واستخلص منه خمسمائة فرنك، فاستشاط غضبا ونقمة، وعاد إلى مصلحته، واستدعى ذلك المكير الخائن ووبخه بشدة تكاد تصل إلى حد التطاول، أوقفه الموظف عند حدّه، قائلا: «صه! فإنى قد أصبحت (بك) مثلك!». وهكذا أضاع بسى بك ثمرة سهره ثمانى وأربعين ساعة بعدم تجلده على الاستمرار ساهرا بضع سويعات أخرى!
(تاريخ مصر فى عهد الخديو إسماعيل- إلياس الأيوبى)