العنوان يبدو خيالياً من الوهلة الأولى، فمن يفهم ما هو السرطان يجد العنوان صعب التصديق، فالتحول السرطانى للخلية يجعلها خلية مسيطرة، تسخّر كل الغذاء والنشاط بالعضو المصاب لإنتاج كمية متضاعفة من الخلايا السرطانية، التى تختلف فى الخواص تماما عن الخلايا الطبيعية للعضو المصاب، ولهذه الخلايا القدرة على الانتشار الموضعى، ليس فى العضو فحسب، بل فى أعضاء الجسم الأخرى، عن طريق الدورة الدموية أو الخلايا الليمفاوية - كما يؤكد الدكتور عمر عبدالعزيز، أستاذ النساء والتوليد بطب القاهرة.
ولكن كيف سيكون هناك تطعيم وقائى ضد هذا «المقتحم المسيطر» كما يصفه أستاذ النساء والتوليد بطب القاهرة؟ يقول د. عمر: «هناك حرب مستمرة منذ سنين طويلة بين الباحثين والأطباء، وبين هذه الخلية الوحش، ومعرفة الأسباب التى تؤدى إلى تحولها، وتطوير وسائل تشخيصية تدل على وجودها، وحديثاً تم تطوير هذه الوسائل للتنبؤ بهذا التحول قبل حدوثه بفترات طويلة. ومن ناحية أخرى، هناك تطوير مستمر لوسائل العلاج، سواء كانت جراحية أو كيماوية أو إشعاعية، وكان عنق الرحم هو أول ساحة قتال لمعركة التطعيم ضد هذا الوحش».
ويضيف: «عنق الرحم هو الجزء السفلى من الرحم، ويمكن رؤيته بسهولة أثناء الكشف الروتينى الخاص بأمراض النساء، ويعتبر سرطان عنق الرحم ثانى أكثر السرطانات شيوعاً فى السيدات، بعد سرطان الثدى، وأظهرت الإحصائيات أن هناك حوالى نصف مليون إصابة جديدة سنوياً، على مستوى العالم، تتسبب فى حوالى 270 ألف وفاة سنوياً، بمعدل حالة كل دقيقتين تقريباً، من هنا يتضح مدى أهمية هذا النوع من السرطان، خاصة أنه يصيب السيدات فى أعمار صغيرة نسبياً، فى أواخر الثلاثينيات والأربعينيات، حيث تكون السيدة فى قمة عطائها العملى والأسرى، مما قد يؤثر بشدة فى الأسرة والمجتمع».
أما عن المراحل التى مرت بها الدراسات الخاصة بخلية عنق الرحم، فيقول عنها د. عمر: «على مدى سنوات طويلة، تمت دراسة التطور المرحلى لخلية عنق الرحم، حتى تتحول إلى خلية سرطانية، ووجد أنها تحتاج إلى مدة طويلة، قد تصل إلى خمسة عشر عاماً، حتى يتم التحول الكامل، وقد أعطى هذا الفرصة للعلماء لاكتشاف طرق للكشف المبكر عن سرطان عنق الرحم، وأشهرها المسحة الخلوية، ودراستها باستخراج صبغة خاصة، أو استخدام محلول اليود، الذى يغير لون الخلية الطبيعية فقط، ويمكن رؤية ذلك بالعين المجردة، وكذلك منظار عنق الرحم، الذى يقوم بتكبير الخلايا، ودراستها فى مكانها».
ويتابع: «استمر هذا لسنوات طويلة، حيث كان الهدف الرئيسى هو اكتشاف الخلايا فى مرحلة مبكرة، ومنعها من الوصول إلى المرحلة النهائية بوسائل علاجية مختلفة، تتراوح بين الكى الموضعى، أو استئصال عنق الرحم، أو الاستئصال الكامل للرحم - حسب نوع الخلايا، ودرجة التغير وسن السيدة». إلا أن حدثاً مهماً غيّر طريقة التعامل مع المرض، كما يؤكد د. عمر، وذلك بفضل الاكتشاف التاريخى للبروفيسور الألمانى، هارالد هاوزن، الذى أكد فيه أن 100% من حالات سرطان عنق الرحم هى نتيجة الإصابة بفيروس H.P.V، وهو فيروس ينتقل بواسطة الاتصال الجنسى، ويتكاثر فى خلايا عنق الرحم، مما يتسبب على مدى سنوات فى تحول هذه الخلايا إلى خلايا ما قبل السرطانية أو خلايا سرطانية، وقد نال هذا العالم جائزة نوبل فى الطب سنة 2008 عن هذا الاكتشاف المهم.
ويشير د. عمر إلى وجود حوالى 100 نوع من هذا الفيروس، ولكن نوعين فقط هما 16 و18، مسؤولان عن حوالى 70% من حالات سرطان عنق الرحم على مستوى العالم، ومن هنا كان التفكير فى إنتاج مصل مضاد لهذا الفيروس.
يقول د. عمر: «بالفعل تم إنتاج هذا المصل، باستخراج جزيئات غير معدية من الفيروس، مضافة إليها مواد خاصة، تحفز مناعة الجسم، حتى تقوم بإنتاج أجسام مضادة، تمنع هذا الفيروس من إصابة خلايا عنق الرحم، ويستخدم هذا المصل على نطاق واسع على مستوى العالم، ويتم إعطاؤه للإناث بداية من 14 سنة، فى صورة ثلاث جرعات، على مدى ستة شهور، وأثبتت الدراسات أنه ينجح فى منع الإصابة بهذا الفيروس بنسبة 90 % على مدى سنين طويلة».
وفى النهاية، يتساءل د.عمر: «هل تكون هذه هى بداية ترويض وحش اسمه السرطان.. وهل سيأتى اليوم الذى يتم فيه تطعيم البنات المصريات ضد سرطان عنق الرحم، كما يتم تطعيمهن ضد شلل الأطفال، أم أنه سيلاقى رفضاً اجتماعياً؟، ولأن الفيروس ينتقل بالاتصال الجنسى، فما علينا إلا الانتظار حتى تحسم المعركة الاجتماعية كما حسمت المعركة العلمية».