جريمة أخرى تضاف لجرائم ضرب الاقتصاد المصرى، تلك هى لجوء الكثيرين ممن يملكون سيولة فى العملة المصرية إلى شراء الدولار.. وبأى سعر.. وأى كمية.. واختزانها داخل البيوت وبعيداً عن البنوك.. وهناك عدة أهداف وراء ذلك.. الأول هو الهروب المتوقع من الجنيه المصرى، قبل أن تنهار قيمته ويفقد نسبة كبيرة منها، على الأقل فى الأيام الأولى لعملية التعويم المتوقعة.. والثانى هو الحصول على ربح مرتفع من عملية الدولرة هذه.. أى التحول من الجنيه إلى الدولار.. وهو ربحٌ مضمون، بدليل تصاعد حجم الطلب على الدولار بشكل رهيب.. فهل تراقب الدولة سوق الدولرة الشديدة العنيفة هذه الأيام.. وهل يكون من أسلوب مواجهتها منع صرف الدولار من البنوك من فئات المائة.. ثم الخمسين دولاراً.. رغم أن ذلك ثبت خطؤه؟!
والدولار- تماماً- مثل الذهب، لا يأتى بأرباح عن فائدة إيداع مثلاً.. ولكن مكاسبه تتحقق من ارتفاع سعر بيعه.. تماماً مثل الذهب والماس.. لأن «قيمته.. منه.. فيه»، ولذلك يعتبره أهل الخليج: زينة وخزينة، أى للتزين به.. ولقيمته عندما يحتاج حائزه إلى مال.. نقول ذلك رغم ارتفاع قيمة الفائدة على إيداع الدولار فى البنوك لفترات.. وهى فائدة تزيد كلما زادت المدة.. والهدف هنا واضح، هو تشجيع حائزى الدولار على إيداعه فى ودائع طويلة المدة.. وبالتالى منع استخدامه فى عمليات المضاربة، ولاحظوا أن عمليات «فك الوديعة الدولارية» تحمّل صاحبها مبلغاً كبيراً وبالدولار.. حتى لا يلجأ صاحب الوديعة إلى فك وديعته إذا ارتفع سعر الدولار عدة قروش.. وهكذا.
وربما أيضاً لجأ البنك المركزى إلى زيادة سعر الفائدة على الودائع بالجنيه ولمدد طويلة.. بهدف السيطرة على عوامل التضخم، وألا يلجأ حائز الجنيه إلى استخدامه والاندفاع إلى شراء أى سلع.. مما يؤدى إلى التضخم وتوالى زيادة أسعار السلع.. ولاحظوا هنا أن ارتفاع سعر الفائدة على الودائع الدولارية انطلق مع زيادة سعر الفائدة على الودائع بالجنيه، حتى لا يلجأ البعض إلى عملية الدولرة، أو استخدام الدولار للعبث فى الأسعار.. ولكن هل هذا يكفى، خصوصاً أن زيادة سعر الفائدة- على العمليتين- تؤدى بالتبعية إلى زيادة سعر الفائدة على الإقراض.. وبالتالى تحد هذه العملية من قيام العديد من المشروعات، بما يؤدى إلى زيادة فرص العمل، ويرفع أيضا سعر المنتجات.. فيزيد الغلاء.. وتعجز المنتجات المصرية عن المنافسة فى الأسواق الخارجية؟.. أى هى حلقات محكمة.. ومنّه لله من اختار اللعب فى هذه الأسعار للعملات.. لأنها فى النهاية ضد الإنتاج المحلى.. وضد زيادة الصادرات المصرية للخارج.
وبالتالى فإن عملية الدولرة- وإن حققت مكاسب لمن يقوم بها- إلا أن أهم ما فيها هو المكسب المنتظر فيما لو تقرر بالفعل تعويم الجنيه المصرى.. لأن هذا التعويم دون الاستعداد له- كما شرحت أمس- سوف يحقق مكسباً لحائزى الدولار يزيد على ٣٠٪، وهنا يكمن الخطر، ليس فقط على الواردات والصادرات.. ولكن فى إحداث موجات شديدة من الغضب الشعبى.. بسبب ما هو متوقع من موجات غلاء تضرب الكل: بسطاء وأغنياء، ولكن كيف نواجه عمليات الدولرة الآن، خصوصاً أننا نلاحظ اندفاعاً فى سحب نسبة كبيرة من الودائع بالجنيه المصرى لشراء الدولار بأى سعر.. وهذا من أهم أسباب التهاب سعر الدولار الآن، حتى إنه قفز فوق الـ 15 جنيهاً مقابل الدولار الواحد؟!
** هل الحل هو المزيد من الإجراءات البوليسية لمطاردة مكاتب الصرافة والتصدى لبيع الدولار لكل من يطلبه.. وبالسعر الذى يعرضه.. بهدف اختزانه وحبسه ولو فى البيوت؟
** أم هو بإيقاف استيراد الكثير من السلع لتخفيف الطلب على الدولار ولعدة سنوات، حتى يأتى هذا الإيقاف بنتائج إيجابية.. وإذا كان هذا ممكناً دون خوف من عقوبات دولية.. فهل يصمد الشعب؟!
** ثم.. إذا كانت الدولة تملك أن تسيطر على سعر الدولار داخل البلاد.. فهل تملك التحكم فى تدفقات تحويلات العاملين بالخارج، وهى أحد أهم مواردنا من العملات الحرة.. ولا تستطيع الحكومة أن تكذّب انخفاض هذه التحويلات إلا من مبالغ للإنفاق على أسر العاملين بالخارج.. وربما بعضهم يطلب ربحاً مضموناً الآن فى التحويلات بالسوق السوداء.. ولكن الأغلب أن الكل: من يملكون الدولار داخل البلاد، أو العاملين بالخارج يفضلون الآن الانتظار لصدور قرار تعويم الجنيه.
كذلك - يا سيادة الرئيس السيسى - أرجوك ألا توافق الآن على قرار التعويم إلا بعد أن نستعد له جيداً.. وأن نصمد أمام أى ضغوط يمارسها صندوق النقد علينا، حتى لا يأتى الطوفان.