من القضايا التى أعلم أنها ستُحدث دوياً وجدلاً فى أوساط فكرية عديدة، قضية (إدخال التكنولوجيا فى خطبة الجمعة)، ولكن بشىء من التعقل والروية والموضوعية، ومشاركة العقل مع العاطفة الدينية، يمكن تجاوز هذا الجدل بصورة حضارية، تؤكد عالمية الإسلام وصلاحيته لكل زمان ومكان.. وفى البداية تعالوا لنتفق سويا على أن العالَم المعاصر يشهد طفرات تكنولوجية متسارعة ومتلاحقة، استفاد منها النابهون فى معظم مجالات الحياة، غير أن استفادة المؤسسات الدينية من هذا التطور مازالت محدودة، على الرغم من أن التطور سنَّة من سنن الله - تعالى - فى خلقه، وهو أمر طبيعى تقتضيه عوامل البقاء على هذا الكون.. فطرائق الشرح والتدريس تتغير وتتطور وتتجدد، وأساليب التربية والتعليم تتطور، ووسائل عرض المعلومات تتطور.. وإن كانت الثوابت ثابتة لا تتغير، إلا أن التطور يلحق صور وأساليب تطبيقها على الواقع. ومن هنا فتجديد شكل وطريقة عرض الخطاب الدينى لا يقل أهمية عن تجديد مضامين هذا الخطاب؛ لأن الخطاب الدينى الصحيح والمؤثر هو صمام أمان المجتمع.. ونعتقد أن الاجتهاد فى هذا المجال يعد اجتهادا ضروريا، ومطلبًا متوازنًا، خصوصا إذا كان يؤكد احترام هيبة الخطيب والخطبة بشكل عام، لاسيما فى هذا العصر الذى يتسم بسرعة التطور والتعقيد، مما يضع على عاتق المؤسسات الدينية ومؤسسات إعداد وتدريب خطيب الجمعة - وهو المكلف ببث الوعى الدينى للجماهير- عبئاً كبيرًا لتنمية وتطوير أدواته وآلياته التى تمكنه من النجاح فى القيام بمهمته، وليكون مسايرًا لمستجدات العصر، خصوصا فى هذا الوقت من تاريخ بلادنا، وظهور تيارات دينية بأفكار متباينة.
ذلك أن استدعاء المشهد الإسلامى من لدن اعتماد النبى (صلى الله عليه وسلم) إشارات بعينها يسهم فى القضاء على الهوة بين النظرية والتطبيق، من خلال ضرب الأمثال وتقريب المشهد التاريخى، من خلال الصور والخرائط والرسوم وغيرها، للشعائر والفرائض والأركان، ويرسخ الأبعاد المعرفية لدى المتلقى لتظل وثيقة حاضرة فى ذاكرة المسلم.. والسؤال الذى يفرض نفسه هنا: إذا كان التطور سنة كونية، فلماذا لا نطور الخطاب الدينى شكلاً ومنهاجًا؟ وإذا كنا ندعو إلى تطوير المضمون، فهل تطوير الشكل يصبح عيبا أو حراما؟!
وإذا كان الكثير من العلماء قد تكلم فى تطوير محتوى الخطاب الدينى ومضمونه، إلا أنهم تجاهلوا تطويره من حيث الشكل والأسلوب والوسائط المساعِدة على بسط آفاقه وتوسيع مجالاته، ولذلك سأركز على معالجة هذه الحلقة المفقودة...
من المعلوم لدى علماء التربية والإعلام وغيرهم أن الصورة فى التعلم، تكون أبقى أثرًا فى الذاكرة من الكلام والنصوص، وأشد وقعًا وتأثيرًا على المشاعر والوجدان، وأسعف وأسرع فى الاستدعاء.. والصورة فى الصحافة تساوى ألف كلمة.. كما أن إعمال العديد من الحواس لدى المتلقى يجعله فى حالة ترقب، مما يجعل خطبة الجمعة أكثر تشويقاً ومناسبة لمختلف المستويات الثقافية والاجتماعية، وهكذا فمن الحكمة أن نستخدم كل ما يعين على الفهم، وما يزيد فى البيان، فلا نكتفى بحاسة واحدة هى حاسة السمع، فليشترك البصر، وإعمال الفكر، وغيرهما فى الاستعداد الكامل للتلقى والتفاعل، ولكى يتأكد موضوع الوضوح والتأثير فى الخطاب، فإن الله - تعالى - لم يرسل رسولاً إلا بلسان قومه (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ)، فلابد إذن أن يفهموه، بشتى الوسائل التى من شأنها تحقيق هذا الهدف.. وتأكيدًا لهذه المعانى، فقد لفت الله - تعالى - أنظارنا إلى التأمل والتدبر بشتى حواسنا فى كتاب الله المنظور «الكون» بما يحويه من مشاهد، ودلائل القدرة الإلهية، وآيات كونية تدل على قدرته وعظمته، لتظل حاضرة فى كينونة المسلم.
ومن أجل ذلك استخدم النبى (صلى الله عليه وسلم) الوسائل التوضيحية المتاحة فى عصره وهو يُعَلِّم أصحابَهُ:
- فتارة يراه الصحابة وهو يمسك عودًا ويخط خطًا مستقيما على الأرض، ثم يخط خطوطًا متعرجةً، ويقول لأصحابه: أتدرون ما هذه الخطوط، فيقولون: الله ورسوله أعلم. فيقول: الخط الأول هو طريق الله تعالى، أما الخطوط المتعرجة فهى طرق الشيطان.
- وتارة ثانية يشير بإصبعيه السبابة والوسطى وهو يقول: «أنا وكافل اليتيم فى الجنة كهاتين، وأشار -بإصبعيه- السبابة والوسطى وفرج بينهما شيئا» فى إشارة واضحة منه (صلى الله عليه وسلم) إلى أن من يكفل اليتيم سيكون قريبا منه فى الجنة.
- وتارة ثالثة يراه الصحابة الكرام، وقد أخذ (صلى الله عليه وسلم) ذهباً بيمينه، وحريرًا بشماله، وقال: «هذان حرام على ذكور أمتى، حل لإناثها».
- وتارة رابعة يعلّم أصحابه المنهج العلمى فى كيفية الرفق بالحيوان -وهذه دعوة محسوسة- عندما كان يأكل تمرًا بيمينه، ويضع النوى فى يساره ويعلف به ناضحه -أى الكبش- ويمسح على رأسه رحمة به، ويُعلم أصحابه ذلك.
- وتارة خامسة ينـزل (صلى الله عليه وسلم) من على المنبر ليحمل الحسن والحسين رحمة بهما، وليعلم المسلمين فضيلة الرفق.. وهكذا فإن هذا الاقتراح ليس بدعًا فى الدين، بدلالة الشواهد السالفة، وغيرها كثير..
ويبقى السؤال المطروح: إلى متى سنظل بعيدين عن الاستفادة من المنجزات والتطورات والوسائل التكنولوجية الحديثة التى هدى الله البشرية إليها، والتى يمكن أن تدعم عرض مفاهيم عقيدتنا، وفقه شريعتنا فى المساجد والمراكز الإسلامية.. وبخاصة فى خطبة الجمعة التى يشهدها جمع كبير من المسلمين بصورة منتظمة.
بمعنى: لماذا لا تُستخدم الوسائل الحديثة كالصور الثابتة -غير المحرمة- والرسوم والمجسمات والماكيتات والخرائط ومقاطع الفيديو والصوتيات.. وغيرها من الوسائل المتاحة، والتى قد تستجد مستقبلا، فى خطبة الجمعة، التى تعد الرافد الأول من روافد الثقافة الدينية لجماهير المسلمين؟ على أن تستخدم هذه الوسائل بطريقة راقية، بحيث لا تخل بجلال الخطيب والخطبة وهيبتها..
وهناك موضوعات كثيرة جدًا تحتاج وبشدة إلى استخدام الخرائط والرسوم والجداول ومقاطع الفيديو والصوتيات، فعلى سبيل المثال: نجد أن المستمع لخطبة الجمعة عن شعائر الحج مثلا لا يسعفه تخيل المشاهد والأماكن والشعائر عبر الكلام فقط، ومن ثم لا يتمكن من أداء الحج أو العمرة بطريقة صحيحة بمفرده.. كأحد علماء الدين الذى سعى بين الصفا والمروة أربع عشرة مرة فى أول عمرة يؤديها..!!. أما لو قام خطيب الجمعة المدرب والنابه باستخدام الوسائل التكنولوجية فى عرض بعض الصور أو لقطات الفيديو للأماكن التى تتم فيها مناسك الحج، فيكون بذلك قد استطاع أن ينقل المصلين نقلة نوعية، حيث إن هذه اللقطات التى لا تتجاوز الدقائق المعدودة أجدى وأنفع وأثبت من عشرات الخطب المجردة؛ لأنه ليس من رأى كمن سمع، ومن ثم يستطيع أن يغرس أركان الحج ومناسكه فى عقولهم ووجدانهم، على عكس الكلام النظرى الذى «يتبخر» من الذاكرة سريعا.. والرسول (صلى الله عليه وسلم) قد أحال أصحابه فى مواقف كثيرة إلى التدريب العملى لرسوخ أثره وثباته فى ذاكرة البشر طويلا، فكان يقول لأصحابه: «صلوا كما رأيتمونى أصلى»، وقال: «خذوا عنى مناسككم».
كما أن الأحاديث فى سلسلة طويلة من الموضوعات كالإعجاز العلمى والأضحية والجهاد والغزوات التى غزاها الرسول (صلى الله عليه وسلم) تقتضى أن تكون مصحوبة ببعض الخرائط والصور والمشاهد التوضيحية التى توضح طبيعة المكان وجغرافيته، والتحديات الجسام التى كانت تواجه المسلمين الأوائل فى سبيل نشر الإسلام والذود عن حياضه، والامتداد الجغرافى لأرض الإسلام واطراد توسعها..
وقد رأيت بعينى رأسى من نافذة الطائرة التى كانت تسير بنا بين المدينة المنورة ومكة المكرمة –ذات يوم-، رأيت جبالا سوداء كبيرة وشديدة الوعورة، تغطى معظم المسافات بين المدينتين المقدستين، فقلت فى نفسى: يا لعظمة رسولنا محمد عليه السلام وأصحابه الكرام الذين قطعوا هذه المسافات فى هذه المناطق الوعرة، وذاقوا الأمَرين من أجل الإسلام فى الهجرة المباركة وغيرها! وأعتقد أنه لو نُقلت هذه المشاهد على ما هى عليه للمصلين بطريقة تؤكد جلال الخطيب وجلال الخطبة، لأحدثت نوعًا من القرب مع الله، وعدم التفريط فى شرع الله..
وإذا كان الهدف من خطبة الجمعة هو القضاء على ظاهرة اللاوعى المظلم إلى بث الوعى الدينى المنير، وإثراء الثقافة الإسلامية، وتبصير الناس بأمور دينهم، وتنظيم العلاقات بين الناس وفق ما قرره الله - تعالى -، فإن الكل يُجمع على أن خُطب الجُمع - وما أكثرها - قد فقدت قدرتها على التأثير، وأمسى الكثير منها غير مؤثر وغير محقق للهدف، كما تتسم بالتكرار الممل.. والرتابة التى تصرف المصلين عن الاهتمام بها، ومن هنا فإن تعظيم الاستفادة منها بشتى الطرق والوسائل التى تحفظ هيبتها وتؤكد عليها من الأهمية بمكان، لاسيما أن من حق ديننا علينا أن نبلغه على أفضل وجه، ومن الحكمة والبصيرة أن يكون خطابنا مناسبًا للمدعوين ومؤثرًا فيهم..
وأعتقد –مع غيرى- أن هذه الفكرة فى حالة تطبيقها ستقضى على ظاهرة التخبط والعشوائية وعدم التحضير لدى الكثير من الخطباء، وتؤسس فيهم منهجية جديدة، يستطيعون من خلالها مسايرة العصر، كما أتوقع أن تؤدى الفكرة أيضا إلى تقليل زمن الخطبة بصورة كبيرة.. وإن ما نقترحه من استخدام آليات تكنولوجية جديدة فى خطبة الجمعة لهو أمل طموح فى تحديث أدوات الخطيب والداعية بشكل عصرى غير ممتهن، خروجًا عن النمطية والجمود؛ ليكون التواصل الفاعل مع الجماهير هو سمة المرحلة، ودعما لمرونة الفقه وقابليته للجديد النافع بمنطلقات ومرتكزات العصر، لنضمن لهذا الخطاب مقومات بلوغ الهدف من خلال الوضوح والبساطة والإقناع، ومن ثم النجاح، كل ذلك باستخدام العلم فى خدمة قضايا الفكر الدينى، ولن يتأتى ذلك إلا بإزالة الحواجز التى صنعها البعض بين الدعاة وبين الابتكار والتجديد..
ويمكن أن تنفذ هذه الفكرة مرحليًّا فى عدة مساجد كبرى، بعد تدريب الخطباء والدعاة، ثم تأتى مرحلة التقييم والتنقيح، تمهيدًا لتعميمها، خصوصًا أن الفكرة لا تتطلب إلا بعض الأجهزة الميسرة مثل: (الكمبيوتر، والبروجيكتور، وشاشة عرض بسيطة).. ويمكن لوزارة الأوقاف عمل مشروع يضم نخبة من كبار العلماء وخبراء الاتصالات ووسائل الإعلام، لإنتاج المواد التى يتطلبها المقترح، ثم نسخها وتوزيعها على إدارات الأوقاف فى شتى أنحاء الجمهورية، وبذلك يكون لمصر الأزهر قصب السبق فى تنفيذ هذه الفكرة وتعميمها، التى يتوقع لها أن ترفع الوعى الدينى والوعى بقضايا المجتمع.. مع الأخذ فى الاعتبار أن فكرة تطوير خطبة الجمعة لا تتعارض إطلاقا مع الشريعة -بدلالة الشواهد السابقة وبشهادة عدد كبير من كبار العلماء والدعاة، الذين كتبوا لى بخط أيديهم تأييدهم الكامل لها- بل تنسجم وتتواءم مع عالمية الرسالة الإسلامية وحيويتها ومرونتها واستيعابها للمستجدات..
وفى النهاية: أؤكد أننا لا ندعو إلى الابتداع فى الدين.. ولكن ندعو إلى إعمال العقل والاجتهاد ومسايرة العصر بأدواته وآلياته، من أجل إبراز مقاصد الإسلام بصورة واضحة.. إن التجارب الدعوية الحية التى شرفنى الله بها –على مدى أكثر من عقدين- والتى قمت بها فى مصر وأستراليا والدنمارك والسويد وهولندا وبلجيكا وفرنسا وغيرها من دول العالم، وما قمت به من استخدام وسائل إيضاح مبسطة وبطريقة مهذبة، وأسهمت فى تحقيق الفهم العميق لدى المصلين، تجعلنى أقف وبشدة وراء هذه الفكرة التى تؤكد حاجتنا الملحة إلى مسايرة العصر بأدواته وأساليبه، بما يحقق أهدافنا وغاياتنا فى فهم الإسلام فهمًا جيدًا، وبآليات العصر التى لا تتعارض مع الإسلام.. وإننى لعلى ثقة كبيرة بأن الله -عز وجل- لو قدر للنبى (صلى الله عليه وسلم) أن يعيش هذا العصر الذى نعيشه الآن؛ لدعا إلى التوسع فى استخدام التكنولوجيا وغيرها من مستحدثات العصر، لتحقيق فهم أرقى وأوضح وأشمل للرسالة الإسلامية، ولتوضيح وتحقيق مقاصدها السامية.. كل ما أرجوه من القارئ الكريم التأنى والتفكير العميق فى الفكرة، وتغليب مصلحة الإسلام الكبرى وإعمال العقل والمنطق قبل العواطف والوجدان.
www.ahmedalisoliman.com
أحمد على سليمان
الباحث برابطة الجامعات الإسلامية