لم تكن تعلم تلك السيدة الأربعينية العمر أن النداء الذي جاء لها بصوت أجش من أقصى أطراف الشارع الذي تقطنه بحى باب الشعرية على لسان بائع الروبابيكا، الذي اعتاد التجول في المنطقة لجمع «أى حاجة قديمة للبيع» واستجابت لندائه وبادرته باستحضار قوتها وكامل عزمها لإلقاء حلتها الألومنيوم القديمة والمتهالكة من شرفتها لتستقر فوق سطح عربته الكارو أنها بذلك الفعل قد تخلصت من تلك الآنية نهائياً، بعد أن اعتادت الطهى فيها منذ عشرات السنين، أعدت خلالها لأسرتها الآلاف من الوجبات الغذائية، حتى تآكلت الحلة، وتخللتها الثقوب، وانتشرت البثور السوداء على أطرافها، وخف وزنها بفعل عوامل أكسدة، لا تعلم بالطبع السيدة الأمية تفسيرها العملى، لكنها تعى شيئا واحدا أنها الآن تنتظر أول فرصة تنزل فيها إلى محلات ذلك الحى الشعبى، لشراء آنية بديلة من بين عشرات الحلل المماثلة، والمعروضة للشراء.
حرص الحاجة زينب -وهكذا تُدعى- على شراء الحلة البديلة من معدن الألومنيوم دون غيرها من الأوانى «ثقافة»»، توارثتها عن أمها وجدتها، وليس لديها أي نية أو قابلية للتنازل عنها -كما تقول- ليس هذا فحسب بل ستقوم بنفسها بانتقاء طاقم كامل من الألومنيوم لجهاز ابنتها الكبرى، المقرر زواجها خلال بضعة شهور.
وأقرت بأن لديها خبرة تصفها بالكبيرة في شراء تلك الأوانى، والتعرف على الجيد منها، حيث اعتادت على التعامل معها منذ أن بدأت تتعلم فن الطهى في منزل والدها قبل زواجها، ومنها –كما تذكر- أن تكون الحلة شديدة اللمعان من الخارج والداخل، وثقيلة الوزن قدر الإمكان «علشان تعيش أكتر».
ولكن من أين جاء هذا الوزن الثقيل، وما هي مكوناته، وهل يعنى أن ثقل وزن الحلة في أيدى ربة المنزل أنها مصنوعة من معدن الألومنيوم الخالص، وإلى أين ذهبت الحلة الخردة التي ألقت بها الحاجة زينب من شرفتها، أسئلة كثيرة زاغت عين الحاجة زينب يمينا ويساراً بعد أن طرحناها عليها، وشعور بالخوف قبض لسانها للحظات عن الكلام، واكتفت بترقب ما نلقيه على أسماعها من أسئلة، لكنها لم تتحمل أجواء الترقب كثيراً، خوفاً من أن نلقى في أي لحظة من اللحظات على آذانها بحقائق علمية، تتناقض مع ثقافتها، وتؤكد لها أنها تحمل بين أيديها خطر توارثته من بيت أبيها، وتحرص بعفوية لا تحمل بها أي نية للأذى لتوريثه لابنتها بل مهاداتها به يوم عرسها.
أنهت الحاجة زينب معنا اللقاء دون مبرر، واحترمنا رغبتها في قطع الحديث، لكننا على الجانب الآخر نعى جيداً أنها واحدة ومجرد حالة من بين ملايين الأسر المصرية، التي تقر بأنه لا مجال للاستغناء عن الحلة الألومنيوم داخل المطبخ.
قررت الجريدة وقتها الإجابة على كل تلك الأسئلة، من خلال هذا التحقيق، الذي استغرق شهورا تقصت فيها «المصرى اليوم» وبشكل علمى مراحل صناعة الحلل الألومنيوم، ومدى صلاحيتها للاستخدام الآدمى.
كان بداية الخيط لنا هو بائع الروبابيكا، الذي يجمع يومياً عشرات الأوانى المتهالكة، ليلقى بها في نهاية اليوم في دكان لا تتجاوز مساحته مترين في متر واحد، يعزل فيها الأوانى الألومنيوم الخردة التي جمعها عن باقى الخردوات، وبعد تجميع قدر كافٍ منهم يقوم بتحمله فوق عربة نصف نقل إلى مخازن أكبر وأكثر اتساعاً، تستقبل منه ومن غيره من عشرات الباعة أطنانا من الخردة.
هنا في مدينة الحوامدية بمحافظة الجيزة، تلك البلدة التي تحتار في وصفها ما إذا كانت زراعية، أو صناعية، تنتشر فيها الورش الصغيرة لصناعة الزجاج وتشكيل وزخرفة الأوانى، تكتظ بالسكان فتجد فيها المنازل متلاصقة، بارتفاعات متباينة في شوارع ضيقة، تمر فيها السيارات بالكاد، كما أنها بلدة تجارية، بها سوق تجارية ضخمة تعرض فيها عشرات المحال الأدوات المنزلية، ويتوافد إليها المواطنون من البلدان القريبة.
وسط كل هذا الزخم تميزت منازل في المدينة خصصت من الدور الأرضى لها مخازن متسعة، لجمع خردة الألومنيوم من الباعة الجائلين، تستوعب تلك المخازن عشرات الأطنان من الخردة، يشتريها صاحب المخزن من الباعة الجائلين بسعر 16 جنيها للكيلو، بما يعادل 16 ألف جنيه للطن، ويتم تقديرها بموازين خاصة.
بعد الوزن تتناثر الخردة الألومنيوم باختلاف أنواعها بين أرجاء المخزن ذات الأرضية الطينية والحوائط المبنية بالطوب الأحمر، فيتولى عمال المخزن ومن بينهم الأطفال عملية الفرز التصنيفى للخردة، ما بين حلل وأطباق وكنك وبرادات وطشوت وأطباق للدش، وحلل داخلية للغسالات الكهربائية العادية، المصنوعة أيضاً من الألومنيوم، و«صوانى». كانت تلك هي أغلب أنواع الخردة الواردة إلى المخزن، ويحتاج صاحب المخزن فترة تتراوح بين 15 و20 يوما كى يشعر بعدها أنه قام بتجميع قدر كاف من الخردة، يغطى تكلفة السيارة لنقلها إلى ورش الصناعة وإعادة التدوير في ميت غمر بمحافظة الدقهلية.
يقوم صاحب المخزن بالاتفاق مع السائق، الذي يتقاضى في النقلة الواحدة للسفر بين المحافظتين ما لا يقل عن ألف جنيه، فيرتفع سعر الخردة إلى 17 ألف جنيه للطن، عند تسليمه لصاحب ورشة التصنيع.
ويقول صاحب المخزن الذي رفض ذكر اسمه: «ساعات بنسلم ورش الألومنيوم الخردة ونستلم بدل الفلوس أوانى جديدة متصنعة، بس ساعتها سعر الطن بيزيد لـ24 ألف جنيه، لأنها خردة متشكلة أما لو سبايك فسعر الطن بيبقى 21 ألف جنيه، وفى كل الأحوال بندفع الفرق، منها نستغل العربية بدل ما ترجع فاضية، ومنها نبيع الأوانى دى لمحلات التجزئة في المنطقة، لأنها مطلوبة جداً، خصوصاً أننا في منطقة فلاحين».
لا يعرف صاحب المخزن سبب تلف الألومنيوم بعد فترة من الاستخدام، الأمر الذي دفع الأهالى للتخلص منها وإلقائها خردة نظير حفنة من القروش يمنحها إياهم بائع الروبابيكيا، لكنه يعتقد في تصوره أن «العيب بيكون في المياه اللى نازلة من الحنفية جوا البيوت، هي اللى بتبوظ الخامة وبتبوظ حتى المعدة نفسها».
ومن الجيزة إلى «ميت غمر» أو كما يطلقون عليها «معقل صناعة الألومنيوم في مصر»، ففى تلك المدينة الصناعية تقسم ورش إعادة تدوير الألومنيوم إلى أجزاء، وفقاً لمراحل التصنيع، لا يتشرط أن تكون كل الورش التي تقوم بمختلف مراحل التصنيع متلاصقة ببعضها البعض، لكونها أنشطة صناعية اجتهادية من الأهالى، كل حسب قدراته المادية في شراء ماكينات التصنيع، ولذلك تجد الورش أسفل المنازل، وكل ورشة بها آلة أو 2 أو ثلاثة في أحسن الأحوال، ويباشر الأهالى مراحل التصنيع فيما بينهم، وباتفاق وتعاون تبادلى، يتم فيه نقل الخام بين الورش حتى إتمام الصناعة.
تبدأ أولى خطوات الصناعة بإلقاء العربة المحملة بالخردة ما تحمله من أطنان أمام باب المسبك، وفيه يتم صهر المعدن عند درجة حرارة لا تقل عن 1200 درجة، بل تزيد، مهمة قاسية لا يتحمل العمل فيها إلا رجال أقوياء، يقدرون على حمل الخردة، وإلقائها من مسافات قريبة جداً من فوهة الفرن إلى النار مباشرة.
يستمر العامل في تقليب الخردة، حتى تختفى ملامح المعدن تماماً، ويتحول إلى الصورة السائلة، تطفو منه على السطح بعض الشوائب، يتصيدها العامل بمصفاة خاصة، ويلقى بها إلى جوار الفرن.
طاقة المسبك يمكنها صهر 7 أطنان خردة في اليوم الواحد، وتعمل أغلب المسابك منذ الساعات الأولى لشروق كل نهار، وتنتهى بحلول الظهيرة على الأكثر، حيث لا يتحمل عمال المسبك الوقوف أمام الفرن في ذروة حرارة الشمس، والتى لم يشفع اتساع مساحته البالغة ألف متر من تهوينها.
تمر الدقائق ولا يتوقف العامل عن تقليب المعدن السائل، الذي يتميز أمام عينه بوميض للهب النار، الذي تكسوه درجة لمعان فضية، فتكسر أمام عينيه ملامح الرماد الأسود، المنتشر حوله في أرجاء المكان، والذى نال منه شخصياَ بعد أن كسا جسده وأخفى ملامح وجهه. يبدأ العامل باستخراج السائل من الفرن، بمطرقة ويحنى ظهره بحرص شديد، وحذر متناهٍ ليسكبه في «إسطمبة» حديدية، إلا أنه رفع عينه قبل ظهره ونظر إلينا قائلاً: «لو نقطة وقعت منها على رجلى تسيحها».
بعد مرور قرابة خمس أو عشر دقائق على الأكثر يكون السائل قد تجمد في «الإسطمبة» لكنه لايزال يحتفظ بدرجة الحرارة العالية، فيتم رفعه بكماشة إلى ماكينات السحب أو الدرفلة، وهى أول مراحل التشكيل، وفيها يتم فرد السبيكة إلى شرائح، من رقائق من الألومنيوم.
لا تعتمد صناعة الأوانى الألومنيوم على المعدن الخردة فقط، بل تضاف إليه نسبة من سبائك المعدن الخام، النقى والصافى، قادماً من مدينة نجع حمادى بمحافظة قنا.
إلا أن هذا الخام تأثر بشكل كبير بالزيادة الأخيرة في سعر الدولار، وعدم استقراره في الأسواق، حتى ارتفع سعر الطن للسبائك منه إلى 31 ألف جنيه. وهو ما علق عليه محمود راغب الدهتورى، رئيس شعبة الأدوات المنزلية باتحاد الصناعات، ونائب رئيس جمعية المعادن بالاتحاد التعاونى، ورئيس نقابة الألومونيوم بالدقهلية، بأن الزيادة في سعر الخام النقى جعلت بعض أصحاب الورش والمصنعين عاجزين عن الالتزام بالوصول بمنتجاتهم لأعلى درجة نقاء، خاصة أن سعر الخام بعد تشكيله يصل إلى 35 ألف جنيه، وهو ما ينعكس بالطبع على سعر المنتج النهائى، فاضطر البعض لاستخدام الخام في المنتجات بنسبة 50% فقط، وباقى النسبة تكون من عناصر أخرى.
الزيادة الجنونية –كما وصفها- في سعر الدولار ألقت ببعد سلبى آخر على تلك الصناعة، وهو أنها أغرت جامعى الخردة إلى الذهاب بها وتسييحها في ورش غير معلومة في منطقة الجبل الأخضر، وتحويل الخردة إلى سبائك، تُهرب إلى الخارج مباشرة، ويتقاضون بالطبع سعرها بالدولار، وبالتالى حدث عجز وعبء جديد على الصناعة، ممثلاً في تراجع كميات الخردة التي ترد إلى المنطقة.
صناعة الألومنيوم في ميت غمر صرح، تخرج منه يومياً آلاف الأطنان من المعدن، بعد تشكيله بمختلف أشكال الأوانى المنزلية، عبر ما يقرب من 1500 مصنع، هي في الغالب أقرب لوصفها بالورش الصغيرة.
منها ما نجح في اجتياز معوقات إصدار التراخيص للتشغيل، في حين اكتفى آخرون بالعمل بعيدا عن رقابة الدولة، التي تلزمهم بدفع تأمينات وضرائب، تفوق- حسب ما أكدوه- السيولة الإنتاجية لديهم.
وهو ما انتقده «الدهتورى» مؤكداً أن تلك الصناعة تعانى تجاهلاً كبيراً من الدولة، فلا تتلقى أي دعم، والدليل على ذلك هو أن ورش تلك المنطقة لا تزال تعمل بماكينات صممت في ستينيات القرن الماضى، ولا يقدر أصحابها على التحديث، وكانت آخر دراسة جدوى تم إعدادها لتطوير تلك الصناعة منذ 5 سنوات.
وقال: «فى نفس ذلك العقد الزمنى كانت تتولى البنوك فتح أبواب التصدير لمنتجات المنطقة، وتضع قواعد ملزمة للطرفين يقودها ممثلون تجاريون بين الدولتين، لوضع ضمانات لطرق سداد فواتير المنتجات، وهو ما لا يحدث الآن على الإطلاق». وعلى المستوى الداخلى يرى «الدهتورى» أن القروض المتاحة للمصنعين تعجيزية، قيمتها غير مجدية، حيث يطرح الصندوق الاجتماعى قرضاً لا يتجاوز 2 مليون جنيه من البنك، كحد أقصى، وأى دعم إضافى يرفع نسبة الفائدة على القرض لـ14%.
وقارن بين وضع الدعم في مصر والخارج قائلاً: «الاتحاد الأوروبى (على سبيل المثال) يقدم القروض بلا فائدة، أو الدعم الأمريكى للصناعة يصل لـ 25% من تكلفة الإنتاج».
وكى يحدث تطوير شامل في المنطقة طالب «الدهتورى» الدولة بالوقف الفورى لتصدير خام الألومنيوم، حيث إنه لا يتاح منه للسوق المحلية سوى 30% فقط من إنتاجه، والباقى يصدر».
الماكينات التي تدوى في أرجاء المنطقة لساعات طويلة خلال اليوم لم تعد تجد العمال المهرة القادرين على تشغيلها، فأغلب العمال هجروا الورش، إما بعد تسريح ملاكها بسبب معوقات الصناعة، أو بسبب عدم كفاية ما يتقاضونه من يومية لمتطلبات أسرهم وعلاجهم من مخاطر المهنة. صداع شديد وطنين في الأذن من أصوات صاخبة تصدر من ماكينات متهالكة، وأمراض جلدية وصدرية نابعة من التعامل المباشر وغير المؤمن مع مواد كيمائية تستلزمها الصناعة، تلك هي أهم المخاطر، التي يتعرض لها العاملون في الورش حسب ما قاله أيمن عبدالعال، أحد العمال، الذي قضى في تلك المهنة قرابة 15 عاماً، وهو واقف لا يرتدى من مستلزمات الأمن الصناعى سوى قفاز جلد، ويلف أسفل صدره رباطا لمشمع بلاستيك، يكسو به نفسه وملابسه، ليقيه من تناثر قطرات الماء المغلى، المخلوط بماء النار والبوتاس داخل حوض من الصاج، تشتعل أسفله النار طوال وقت العمل.
مهمة عبدالعال بمعاونة زملائه هي إلقاء الأوانى الألومنيوم المشكلة إلى حوض الماء المغلى، كى تتخلص من اللون المطفى، وتكتسب درجة لمعان فضية، تصل لأقصاها بعد عرض الأوانى للتجفيف في الهواء الطلق لمدة لا تقل عن ساعة، بعدها تبقى المرحلة الأخيرة في الصناعة وهى التزيين، بحفر منحنيات على الآنية تعطى شكلا جذاباً للمنتج، ويُمكن للورشة الواحدة تزيين نحو طن من الأوانى يومياً.
رغم أن عبدالعال من الندرة المؤمن عليها بين عمال المنطقة، إلا أنه يسعى كل يوم لأن ينهى علاقته بتلك المهنة: «محدش بيقدر حجم الخطر اللى بنشوفه، واللى بيقع مننا مش بيلاقى برشامة في مستشفى لتأمين صحى، واللى فكر يخرج معاش قبل المدة أخد مكافأة أربعة آلاف جنيه ومعاش شهرى 300 جنيه».
خرجنا من المنطقة لكن .لا يزال يعلق في أذهاننا الحديث عن تجاوزات بعض المصنعين بخلط عنصر الألومنيوم الخام بعناصر أخرى عند صناعة الأوانى، فتلك الأوانى تدخل منازلنا ونطهو فيها طعامنا فما هي العناصر الأخرى الداخلة في التركيب؟.. سؤال كان يتطلب الإجابة عليه بشكل علمى بحت، خاصة أن تناثر المعادن التي يتم صهرها في الورش قد لا يجعلك تتعرف عليها وتميزها بمجرد النظر لها بالعين المجردة، كما أن دخولها في الصناعة لابد له من معايير ونسب تحددها المواصفات المثلى.
وهنا قررت الجريدة التحقق بنفسها من النتيجة العلمية، وبدأت أولى خطواتها بشراء عينات من الحلل الألومنيوم، المعروضة بالآلاف على مرأى ومسمع الجميع في الأسوق الشعبية، ومنها «الأزهر» و«باب الشعرية».
الحلل المعروضة للبيع أنواع منها الأطقم بمختلف الماركات ومنها «الفردانى» الذي يُباع بالقطعة، ويحدد سعر الحلة وفقاً لوزنها، وهو الأكثر تداولاً بين المواطنين، من الطبقات الدنيا، الذين لا يقدرون في أغلب الأحوال على شراء أطقم كاملة، غالبا ما يستبدلون «حلة» بـ«حلة» أخرى بدلا من المتهالكة، ويقدر سعر الحلة في تلك الحالة حسب وزنها.
رغم خروج «رايش» أو زيادات من المعدن في حوافها، وعدم تطابق الغطاء بشكل محكم على الحلة إلا أن صاحب أحد المحال رفض رفضا باتاً محاولات الفصال في سعر الكيلو، الذي قدره ب 28 جنيها ونصف: «إنتو عارفين طن الألومنيوم النهارده بقى بكام..؟، ده غير صناعته ونقله، والله ما طلع لنا فيها أي مكسب بس علشان خاطر الدنيا تمشى».
توجهت بعد ذلك الجريدة بالعينة لمقر «معمل التحاليل الدقيقة» التابع لـ«جامعة القاهرة»، وطلبت معرفة مكونات هذا المنتج، واستغرقت مدة التحليل قرابة شهر ونصف، حيث تم على مرحلتين، الأولى بتحليل العينة في صورتها الصلبة المعدنية، باستخدام تحليل «XRF»، والثانى بعد تحضيرها بصورة سائلة، باستخدام تحليل «ICP». أثبتت النتائج أن العينة تحتوى على عنصر الألومنيوم بنسبة 49.78% فقط لا غير من إجمالى محتوياتها، وأن باقى العينة من عناصر أخرى مثل الماغنسيوم، والمنجنيز، والكروم، والحديد، والنحاس، والأنتيمون، والرصاص، بنسب متفاوتة مع عناصر أخرى.
ورصد التحليل معدلات عالية لعناصر تجاوزت الحد الأقصى المسموح به رسمياً في مواصفة «الأوانى الألومنيوم المنزلية المشكلة على البارد»، الصادرة عن الهيئة العامة للمواصفات والجودة، التابعة لوزارة الصناعة، تحت رقم 573/2005، والتى حصلت الجريدة على نسخة منها، وترصد كافة المعايير الكيمائية والخواص الميكانيكية، التي يجب أن تكون عليها الأوانى المنزلية، المصنوعة من الألومنيوم، والمشكلة على البارد، وتستخدم في إعداد الأطعمة وأغراض الطهى المنزلية.
وبعرض النتائج المستخلصة في التحليل- المرفق منه نسخة ضوئية في التحقيق- على الدكتور محمد محمود أبوالذهب، أستاذ الكيمياء المتفرغ بكلية العلوم جامعة المنصورة، لمقارنتها بنسب الحد الأقصى المسموح بها في المواصفة أكد أن عنصر الرصاص تواجد في العينة بمعدل 84.566 ppm، وهو ما يعنى أنه تجاوز النسبة المسموح بها لهذا العنصر في المواصفة بمقدار ثمانى مرات، بواقع 0.08%، مقابل 0.01%.
كما بلغ معدل النحاس 721.9364 PPM بنسبة قدرها 0.07 % متجاوزاً الحد الأقصى للمواصفة وقدره 0.05 %، فيما تجاوزت نسبة المنجنيز خمسة أضعاف الحد المسموح به، بعد أن بلغ 2613.466 PPM بنسبة 2613. % في حين يقدر الحد الأقصى بـ 0.05 %.
وتقاربت نسب عناصر الماغنسيوم والحديد والأنتيمون، من النسب التي أقرتها المواصفة، فيما ظهر في نتائج العينة وجود عنصر الكروم، والذى لم يرد بين العناصر المحدد قدرها في المواصفة، وكانت نسبته 0.007%
وأكد أن الخطر الأكبر يكمن في أن نسبة الألومينوم والتى لم تصل لـ50% من تركيب العينة ليس لها أي علاقة بقدر الحد الأدنى لنسبة الألومنيوم في المنتج، والتى أقرتها المواصفة بـ99.50 %، وبالتالى فإن باقى العناصر كلها تعتبر شوائب.
الأثر الطبى للطهى في آنية تحمل تلك المخالفات الصناعية يتحدث عنه الدكتور عصام غنيم، أستاذ التغذية في المركز الإقليمى للأغذية، التابع لمركز البحوث الزراعية قائلاً: «ثقافة الطهى في الأوانى الألومنيوم بدأت تشيع في المجتمع المصرى مع سبعينيات القرن الماضى، وكان التصور العلمى وقتها أن الألومنيوم عنصر خامل لا يتفاعل، إلا أن تطور الأبحاث أثبت أنه يتفاعل مع المواد الحمضية، الموجودة في أنواع من الأطعمة والخضروات، حيث تتفاعل تلك المادة مع السطح الداخلى للآنية، وتنتقل ذرات العنصر إلى الطعام».
وحصر «غنيم» أضرار الطهى في تلك الأوانى في ثلاث مشكلات طبية، أولها الإصابة بـ«ألزهايمر، لأن تناول الغذاء المشبع بالألومنيوم يجعله ينتقل عن طريق الدم على خلايا المخ، ويسبب هذا المرض.
وأثبتت دراسة استرالية وجود علاقة طردية بين نسبة الإصابة بألزهايمر ونسبة تركيز عنصر الألومنيوم في الدم، وذلك بعد أن تم سحب عينة من مخ مريض توفى بعد إصابته بهذا المرض، واكتشفوا فيها نسبة تركيز عالية للألومنيوم في خلايا المخ، وكانت تفوق وقتها المعدل الطبيعى 12 مرة.
أما الخطورة الثانية فتتمثل في أن تركيز الألومنيوم في الدم يتنافس مع عنصر الكالسيوم في الدخول للعظام، وبالتالى يسبب الهشاشة.
والثالثة والتى لم تنل حقها في الدراسات- حسب تعبيره- ترجع إلى وجود علاقة مباشرة بين زيادة نسبة تركيز الألومنيوم والعقم بين الجنسين، على حد سواء.
وعن كيفية ملاحظة تفاعل الجدار الداخلى للآنية مع الطعام، ذكر «غنيم»، أنه قام بتجربة شخصية خلال دراسة أعدها للمركز، تحت عنوان «المسح القومى لدراسة الوجبات الشعبية بالأسواق»، كان جزء منها متعلقا بتلوث وجبة الكشرى الشعبية بهذا العنصر، حيث يتم طهى جميع مكوناته في أوانى ألومنيوم، وقال: «توجهت إلى أحد مصانع تصنيع الأوانى في مدينة السادس من أكتوبر، وطلبت من المصنع تصنيع أوانى من الإستانلستيل، بحجم كبير لإعداد وجبات جماعية لطلبة، ففوجئت صاحب المصنع يقترح استبدال خام الإستانلستيل بخام الألومنيوم، لأنه سيكون أقل تكلفة بكثير». وأكد له صاحب المصنع وقتها أن الكثير من أصحاب محلات الكشرى يتعاونون معه، لتصنيع أوانى طهى تلك الوجبة، وبعد مرور الوقت يتآكل منهم قعر أوانى إعداد الصلصة على التحديد، فيأتون بالآنية مرة أخرى ليعاد تركيب قعر جديد لها. وفسر «غنيم» ذلك بأن الطماطم أو الصلصة التي يتم إعدادها لتلك الوجبات بها عناصر تتأكسد بنسب كبيره مع الألومنيوم، وتتفاعل معها لدرجة تؤدى لتآكل الإناء.
وانتهت الدراسة في نتائجها أن الأطفال من عمر 12 إلى 15 سنة إذا ما واظبوا على تناول تلك الوجبة، التي تتناسب بشدة مع متوسط مصروفهم الشخصى، بمعدل 3 مرات فقط أسبوعيا فإن ذلك سيكون قدرا كافيا لإصابة هؤلاء الأطفال بالأمراض السابق ذكرها عند وصولهم للمرحلة العمرية ما بين 25 و30 عاما.
يتضاعف هذا الخطر- كما يقول- «غنيم» عند دخول عناصر أخرى في تركيب الآنية مع الألومينوم، وعلى رأسها «الرصاص»، المحظور دولياً وجوده في أي آنية، يتم التعامل بها لإعداد الوجبات، حيث يسبب التسمم والأنيميا وعدم التركيز لدى الأطفال، فيما نجد عنصر المانجنيز يؤثر على نشاط خلايا الكبد.
ونصح أي ربة منزل بالابتعاد عن تلك الأوانى فوراً، واستبدالها بالأكثر أمانا، كالبيركس، والإستانلستيل، والصاج المطلى بعناية، والفخار غير الملون، لأن المادة اللامعة التي يغيرون بها اللون الطبيعى للفخار ترتفع بها نسبة الرصاص بدرجة عالية. تلاحظ ربة المنزل بعد الطهى في الأوانى الألومنيوم لفترة وجود نقر سوداء داخل الحلة وحفر حذر منها الدكتور محمد رشيد أستاذ الكيمياء الحيوية والطبية والبيولوجيا الجزئية، لأنها يصعب الوصول إليها أثناء التنظيف، وتتحول إلى مأوى لفضلات الطعام، وعفن الأكل، بالمخالفة الصريحة لمواصفة الأوانى، التي تقر بأن يكون الإناء مصمما بحيث يسهل تنظيفه ويمنع تراكم أي فضلات به.
وعن وجود عنصر كالكروم في العينة فأكد أن له أثر سلبى، يلحق الضرر بكرات الدم الحمراء.
تتفاقم مساوئ الطهى في الأوانى الألومنيوم خاصة غير المطابقة للمواصفات مع إساءة الاستخدام من قبل ربات البيوت، وهو ما يتحدث عنه الدكتور نبيل عبدالمقصود، استشارى علاج السموم، ورئيس الجمعية المصرية لعلاج السموم وأمراض البيئة، ورئيس الاتحاد العربى لمكافحة السموم وحماية البيئة قائلاً: «الألومنيوم من العناصر التي يحدث لها تركيز في الجسم، وبعض ربات البيوت لا تكتفى فقط بالطهى فيه بل تترك الطعام فيه لفترات طويلة، وقد تتركه يبيت لليوم التالى، وفى تلك الأسر تكثر الحالات التي تعانى من مشاكل في الكلى والعظام، حيث يُضعف من قوتها وصلابتها، ويسبب الهشاشة، ومشاكل في كرات الدم البيضاء، التي تخرج من النخاع، وتزداد الخطورة مع الأطفال، الذين هم في مرحلة تكوين العظام، وكبار السن ممن يعانون من وهن العظم بطبيعة الكبر».
فيما أجزم أمير الكومى، رئيس جميعة المراقبة والجودة لحماية المستهلك، بأن أوانى الطهى البلاستيك والألومنيوم الموجودة في أسواق المناطق الفقيرة غير مطابقة للمواصفات على الإطلاق. وأشار إلى أن الجمعية حصرت على مدار 5 سنوات وجود 760 ألف مصنع غير مرخص تحت بير السلم، بسبب عدم اهتمام الدولة بالصحة العامة، وعدم تطابق أي مواصفة من مواصفات الجودة.
وقال: «تقدمنا بمشروع لرئيس الوزراء للتنسيق مع أعضاء البرلمان، لحصر تلك المصانع، وإعطاء رقم نهائى ودقيق بعددها، ومعرفة بالطبع أماكنها، واقترحنا أن يتولى كل عضو مجلس شعب في دائرته مهمة معرفة أماكن تلك الورش، التي تقام في أغلب الأحوال في الدور الأرضى من العقارات، ويتم ربط ما سيتم حصره بشبكة مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء».
وقال الجمعية طالبت بأن يكون الحصر تصنيفيا من أجل التطوير، لأن سياسة الغلق ستؤدى إلى ترحيل المصنع لمكان آخر، وأقل ورشة يوجد بها ما بين 5 و7 عمال، وبالتالى لن نلقى بالطبع بنحو 8 ملايين عامل في السجون.
وشدد على ضرورة إنشاء وزارة أو هيئة عليا للمشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر، تتولى متابعة تطوير منتجات تلك الورش، أو المصانع الصغيرة، بعد إصدار للتراخيص لها، والاعتراف بها، خاصة أن المواطن بحاجة لمنتجاتهم، واعتاد على استخدامها لسنوات.
وأكد أن تقنين وضع تلك المصانع سيوفر على الدولة الكثير من حملات المصادرة، فتحليل تلك المنتجات للتأكد من سلامتها أمر ليس سهلا، وحتى بعد التأكد منها سوف يصطدم المسؤول بتوغل منتجات تلك المصانع في ثقافة الاستخدام لدى الأهالى، وهو الأمر الذي لن يتغير بسهولة، ولكن يمكننا العمل في خط مواز، لرفع الوعى من الآن بمخاطر التعامل مع تلك المنتجات. وأكد أن هناك 30 مصنعا تم غلقها لمجرد أن أصحابها كانوا ملتزمين بأحدث التقنيات العالمية والصحية لإنتاج الأوانى بشكل مطابق بحد كبير لمواصفات الصناعة لكن تكلفة الإنتاج مع ارتفاع الاسعار وركود الأسواق كبدهم خسائر اضطرتهم لغلق المصانع في النهاية وبسبب عدم تلقيهم أي دعم.
د. إبراهيم المناسترلى رئيس مصلحة الرقابة الصناعية: نحلل منتجات المصانع.. وشكاوى المواطنين دليلنا لورش «بير السلم»
مخاطر صحية وبيئية وتحذيرات من متخصصين رصدناها في هذا التحقيق كان يجب علينا عرضها على المسؤولين في وزارة الصناعة ممثلة في مصلحة الرقابة الصناعية، لمعرفة دورهم في التصدى للتجاوزات وقال د. إبراهيم المناسترلى، رئيس المصلحة، إن دور المصلحة يتمثل في تتبع كل المصانع القائمة لتحديد المرخص منها وغير المرخص، وتحليل منتجات الاثنين على حد سواء، لتوقيع العقوبة القانونية على المخالفين.
■ كيف تتم الرقابة على مصانع منتجات الأوانى الألومنيوم المتداولة بالأسواق؟
- تخضع جميع المصانع المرخصة لإشراف ورقابة الهيئة، لمتابعة التزامها بمواصفات الصناعة وجودتها، ونتأكد بذلك عمليا بجمع عينات من منتجاتها، لفحصها والتأكد من مطابقتها لشروط الصناعة. أما منتجات المصانع غير المرخصة، أو ورش «بير السلم»، والتى تعمل دون صفة رسمية، تلزمها باشتراطات الصناعة، ويتم التصدى لها، إما بجمع عينات عشوائية من السوق، أو بفحص أي بلاغات ترشدنا إليها.
■ كيف يتم التعامل مع العينات التي يتم فحصها بعد التأكد من عدم مطابقتها للشروط؟
- من المفترض أن يكون كل منتج موضح عليه بطريقة يصعب إزالتها اسم المصنع، أو العلامة التجارية الخاصة به، وكذلك بلد المنشأ، وهناك بالفعل ماركات معروفة لمنتجات، ورغم ذلك نقوم بسحب عينات منها للفحص، لضمان التزام المصنعين بالمعايير طوال الوقت، وإذا ما ثبت أي مخالفات، يتم التعامل هنا قانونياً مع الجهة المنتجة لها، والمعروفة لدينا.
أما المنتجات مجهولة المنشأ فنحاول التوصل من خلال أي كود أو علامة أو اسم لتداولها لموقع ومكان التصنيع، ويتم أيضا وقتها تحرير محاضر المخالفة لهم.
■ وكيف يتم التصرف إذا لم تتوصل المصلحة بأى طريق كان لهوية المُصنع؟
- هنا تلجأ المصلحة إلى بروتوكول التعاون المفعل بكفاءة مع جهاز حماية المستهلك ومباحث التموين، فمن صلاحيات جهاز حماية المستهلك مساءلة التاجر والتحقيق معه، حتى يدلنا على مُصنع المنتج، الذي يقوم ببيعه، ونتبع باقى الإجراءات.
وتعتمد المصلحة في تلك الحالة بشكل كبير على الشكاوى المقدمة من المواطنين أنفسهم ضد منتجات بعينها.
■ كيف؟
- عندما تستقبل المصلحة أي شكوى من مواطن يقوم بشراء منتج ويشك ولو بالفحص الظاهرى بأنه غير مطابق للمواصفات، أو يكون قد قام بتجريبه واستعماله ثم ظهرت عليه أي عيوب، تدل على عدم جودة الصناعة، نستقبل نحن تفاصيل الشكوى، ونتحرى عنها وما جاء فيها من معلومات، وننسق مع مباحث التموين للخروج بحملة يكون فيها فنى متخصص من المصلحة.
■ ما دور الفنى في تلك الحالة؟
- يتحقق من صحة الشكوى، ليثبت الواقعة، ويقوم بكتابة تقرير، بخط يده، يثبت فيه أولاً ما إذا كان المصنع له رخصة تشغيل أم لا، ثم حالة المنتج، الظاهرية، إلى حيث أن تقوم المصلحة بتحليله في معامل مصلحة الكيمياء، ومطابقة النتائج بالمواصفات الرسمية للهيئة العامة للمواصفات والجودة.
١٩
مرحلة تحوّل «الخردة» لـ«أوانى طهى»
١
نموذج لأنية ألومنيوم تحولت لخردة
2
تجميع الخردة في أحد المخازن تمهيداً لنقلها لـ«ميت غمر»
3
المخازن تستقبل أطباق الدش الخردة لإدخالها في إعادة التدوير
4
أحد العمال يجمع عناصر من الخردة لتسييحها
5
إلقاء الخردة بالأيدى في أفران تعمل بدرجة حرارة عالية
6
استخدام مصفاة لجمع الشوائب التي تظهر على السطح
7
استخراج سائل الخردة بعد تسييحها بواسطة مطرقة
8
العمال ينقلون الخردة المنصهرة دون وسائل للحماية
9
وضع السائل في قالب من الحديد لتجميده
10
رقائق من شرائح الألومنيوم بعد استخراجها من القالب «الإسطمبة»
11
وضع الرقائق في ماكينة للطرق والسحب
12
ماكينات الدرفلة تحول شرائح الألومنيوم لرقائق قابلة للتشكيل
13
تقطيع الشرائح في أولى مراحل التشكيل
14
تجميع الآوانى بعد التشكيل تمهيداً لمرحلة التلميع
15
غسل الأوانى في حوض يحتوى على خليط من الماء المغلى وماء النار والبوتاس
16
تلميع الأوانى بقطعة من القماش
17
تعريض الأوانى للشمس والهواء للتجفيف
18
بعض الأوانى تمر بمرحلة التزيين قبل جمعها بالمخازن
19
عرض الآوانى بمختلف الأحجام والأشكال بمحال الأسواق الشعبية