حادثة غرق قارب رشيد أصابتنا جميعا في مقتل إنساني لأسباب لا داعي للإسهاب فيها الآن.
ما وقع أراه مؤشرا شديد الخطورة باعتباره علامة تستوجب الدراسة والبحث، صحيح أن هناك حوادث مشابهة وقعت بنفس الطريقة والكيف لكن تكرارها والفئة العمرية التي كانت متواجدة على قارب الموت تحفز الفكر نحو مزيد من البحث والتدقيق، وتدق نواقيس الخطر.
مكمن الخطورة يتأتى من أن هناك شعوبا ظاهرة الهجرة ليست سلوكا ثابتا عندها ولو حدثت تكون هجرة داخلية يتحرك مواطنو هذا البلد من مدينة إلى أخرى داخل حدود دولتهم دون أن يفكروا في عبور حدودها، والشعب المصري يندرج ضمن نوعية هذه الشعوب التي لا تميل إلى الترحال والهجرة والحركية بطبعها حتى لو ضاقت مصادر الرزق.
المحصلة أن طبيعة الشعب المصري جعلته يروض الجغرافيا ويركبها ولم يجعلها تبعثره في منافيها رغم أن مصر عبر التاريخ كانت في مراحل عديدة بلدا طاردا بالمفهوم الاقتصادي وهذا حدث مرات كثيرة ومن يريد المزيد يرجع إلى المقريزي في وصف المجاعات التي ضربت مصر ولم يشهد التاريخ المصري نزوحا .
مردَ ذلك يعود إلى جذور التكوين الحضاري ولعل الراحل العظيم «جمال حمدان» في مؤلفة شخصية مصر«فك رموز العلاقة بين المصريين وأرضهم، بين الإنسان والجغرافيا، لينتهي إلى أنها علاقةُ أبدية عجينتها هي الأرض التي شكلت وجدان وفكر وثقافة المصريين والنهر الذي خلق الاستقرار في يقين الشعب، من هنا يبرز قارب الموت في رشيد باعتباره مؤشرا خطيرا.
والخطورة تتأتى من أن ثمة تغيرا في الوجدان والثقافة والفكر والعقلية المصرية جعل المصري يخرج من يقينه الثابت وهو الأرض إلى مجازفة المتحرك وهو الهجرة والترحال، والأخطر من ذلك أنه يقدم على هذا الفعل وهو محمل بيقين وثقة يتوازيان مع الموت «إما أن أهاجر وإما أن أموت».
هنا سأنحي بعيدا العامل الاقتصادى وأتحول قليلا إلى بعض المتغيرات السياسية والفكرية التي تنعكس على حراك الشعوب.
الذي يتابع معادلة التفكير المصري يعرف جيدا أنه شعبُ يحب التعلق بالأحلام حتى لو كانت وهما، المصري أيضا كريم وهو على استعداد أن يروي تلك الأحلام بدمائه وأحداث التاريخ ملأى بذلك.
لكن في اللحظة التي يتأكد له أن تلك الأحلام ماتت ولن تقوم لها قائمة تتبدل تلك الشخصية ويحركها الغضب الذي قد يؤدي بها إلى أن تكون فريسة سهلة لمن يملك أي مشروع مهما كان.
هنا أعود إلى نهاية الستينيات من القرن الماضي وتحديدا هزيمة 67 الموجعة ثم موت عبدالناصر ثم سقوط فكرة القومية العربية وهي مجموعة من الانكسارات والهزائم «هزيمة عسكرية، شعبية، وأيديولوجية وفكرية».
ما الذي حدث.. ماهي ردات موت تلك الأحلام والهزائم؟
ظهر تيار يقول الإسلام هو الحل «وليس عبدالناصر ولا القومية العربية ولا تيار اليسار بكل تنوعاته هم الحل، أصحاب هذا التيار قدموا للشعب الخارج من الانكسار بديلا غير قابل للاختلاف ولا التشكيك فيه وهو «الدين هو الحل» ولما جاء الرئيس السادات قدم نفسه لأصحاب هذا التيار وللشعب باعتباره الرئيس المؤمن ومر الوقت ومع بداية السبيعينات بدا ما يسميه أبناء النيار الإسلامي «الصحوة الإسلامية في الجامعات».
الرئيس السادات فتح لهم الجامعات المصرية معتقدا أنه سيلجم تيار اليسار الذي كان قويا في هذا التوقيت.
قويت الجماعة الإسلامية الطلابية حتى أخرج السادات قيادات جماعة الإخوان المسلمين من السجون منتصف السبعينيات، فمارس قيادات الجامعة سطوة على الجماعة الطلابية بغرض احتوائها والسيطرة عليها حتى تفككت إلى المدرسة السلفية في الإسكندرية التي تحولت إلى الدعوة السلفية الموجودة حتى الآن بذراعها السياسية حزب النور، وخرج منها الجيل الثاني لجماعة الإخوان الذي شهد دخول عبدالمنعم أبوالفتوح، حلمي الجزار، البلتاجي، عصام العريان، أبوالعلا ماضي، وأكرم زهدي وناجح إبراهيم، والاحتفاظ بمسمى الجماعة الإسلامية لتكون المظلة التي تبنت فكرا عنيفا انتهى بالعديد من المجازر من مقتل السادات مرورا بمجزرة الأقصر ومقتل المحجوب وغيرها.
إذاً الجنوح نحو العنف والتشدد والإرهاب كان ردة فعل فكرية وشعبية وسياسية لموت الأفكار والأحلام، وردة مأساوية لإحساس الهزيمة أيا كانت تلك الهزيمة عسكرية أم غير ذلك.
الخوف أن يكون تحول المزاج المصري والعقلية المصرية والثقافة الشعبية المصرية والتراث المصري نحو ارتياد دروب الهجرة حتى لو انتهى بالموت، أن يكون ردة فعل لفكرة موت الأحلام التي زرعها المصريون وسقوا أشجارها بدمائهم بعد ثورتين عظيمتين. خصوصا ثورة 30 يونيو لأن مستوى ارتفاع ترمومتر الأحلام وصل إلى منتهاه ولطالما حذرنا في حينه من ألا يترك الشعب الخارج بعد ثورتين ألعوبة في أيدي المزايدين، الطبالين وفرق الزفة.
الثورات تحتاج موجة من التنويرين يتولون إعادة بناء وجدان الناس لأن فعل الثورة هو فعل هدم القديم البالي وإحلال جديد صحي مكانه، ولعل العامل الأهم في نجاح الثورة الفرنسية كان وجود فولتير، جان جاك روسو منظر الثورة، مونتيسكيو وغيرهم، هؤلاء هم رواد مرحلة التنوير الأوروبي والإنساني.
المحصلة نحن أمام متغير خطير لا يجب أن يؤخذ بعين اللامبالاة والتبرير وسياسة قلب الحقائق وتعمية الوجدان وتزييف الوعي وانتهاك العقول واستغباء الناس، هذا المتغير يقول «إننا أمام شعب، خصوصا الفئة العمرية التي رأيناه على قارب الموت، وصل إلى قمة درجات إحباطه.
وهنا على أولي الأمر ألا يتبعون سياسة خلق المنصات الإعلامية لإسكات الناس أو تغييب الناس وإنما عليهم الاعتذار اولا للموجوعين في أحلامهم والمصارحة بالحقيقة المرة التي لا تخفى على أحد. ثانيا عليهم خلق نوافذ أخرى للقمة العيش وإنزال ذلك على أرض الواقع ليشعره ويلمسه الفقير والفلاح، لأن الإحباط يصنع أجيالا كل واحد منهم هو قنبلة موقوتة.