(مفتتح)
روى الأقدمون عن أبي ذر: قلت يا رسول الله.. ألا تستعملني؟، فضرب بيده على منكبي ثم قال صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها.
(1)
كلمة "أمانة" في حديث رسول الله (ص) تؤكد واجب المسؤولية، الذي يتجلى في حديث شريف آخر قال فيه صلى الله عليه وسلم: ألا كلُّكم راعٍ، وكلُّكم مسؤول عن رعيَّته..."، وهو المعنى الذي سبقت إليه الآية 72 من سورة الأحزاب في القرآن الكريم ونصها: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾.
(2)
السلطة إذن ليست مغنما، بل مسؤولية ثقيلة في الدنيا، وخزي وندامة في الآخرة، إلا إذا تولاها من يقدر على الوفاء بحقها، لهذا رفض الرسول (ص) إغواء المُلك الذي عرضته عليه قريش، كما كان الفاروق عمر رضي الله عنه يشعر بوطأة السلطة ومسؤوليتها، حتى أنه كان يبكي ويحذر نفسه: ويلك يا عمر لو أن بغلة عثرت في العراق لسئل عنها عمر: لما لم تمهد لها الطريق؟
(3)
كنت في المقال السابق فد تناولت خطورة تأثير السلطة على من يتقلدها، حتى لو كان عاقلاً وعادلاً قبل توليها، وكدت أتعامل مع السلطة باعتبارها هرمونا يفرزه كرسي الحكم في جسد الحاكم، فيتحول إلى وحش كاسر، لولا أنني وجدت على مدى التاريخ حكاما كانوا أقوى من إغراءات السلطة، ولهذا رأيت أن هذا الهرمون الوحشي لا يصيب إلا المتسلطين المستأثرين برأيهم الفردي دون مشورة، ودون مرجعية متفق عليها، ودون قبول بالمعارضة والرد إلى الحق، لكنني تساءلت في نهاية المقال، عن سبب استمرار الديكتاتوريات وأمراض السلطة في دول مثلنا، تطبق نظام التعدد الحزبي، واختيار المسؤولين بالانتخاب، وإفساح المجال للمعارضة، والاحتكام إلى عقد اتفاقي بين الجموع الواعية يتمثل في الدستور والقوانين!!، ورأيت أن في الأمر خدعة.. فيا ترى ما هذه الخدعة، وكيف نتخلص منها؟
(4)
الخدعة ببساطة هي أن مؤسسات التعددية والتشريع والرقابة والمعارضة السياسية نشأت كتقليد من خارج المجتمع وتطوره، فهي أشكال استوردناها في مراحل الاستعمار، والعلاقة الدونية مع الغرب، وقلدناها بشكل "صوري" لنوهم أنفسنا ونوهم الآخرين أننا دولة عصرية، لدينا برلمان، وأحزاب، وقوانين، وأجهزة رقابة، بينما نحن نرزح تحت تقاليد القبيلة التي يحكمها رجل واحد بالنار والحديد، ويستخدم كل الأشكال العصرية بعد تزييفها، وتفريغها من دورها الحقيقي، لتكون مجرد أدوات للسيطرة على المواطنين، وليس لإدارة حياتهم بما يحقق أعلى درجات التطور وارتقاء مستوى المعيشة، وتقديم الخدمات والرعاية للجميع على قدم المساواة دون تمييز بين غني وفقير أو حاكم ومحكوم.
(5)
هذا التزييف هو الخدعة التي تقتل التطور، وتمنع التقدم، وتحول دون وصول المجتمع لأهدافه التي يطمح لها، فالخدعة لا تفضي أبداً إلى النتيجة التي تعلنها، لأنها لا تستهدف إلى خداع الآخر، مثل المرأة التي كانت تضع قدراً من الماء على النار، بينما طفلها يبكي ويصرخ شاكيا من الجوع، ولما كشف سيدنا عمر بن الخطاب الغطاء عن القدر فلم يجد إلا حفنة من الحجارة، وضعتها الأم لإلهاء طفلها حتى ينام، حينها لم يتعامل الحاكم مع المرأة باعتبارها مجرمة تحاول قتل طفلها، بل رأى أنها ارتكبت الخداع تحت ضغط "ضرورة" أكبر من قدرتها على التصرف، وبالتالي فإن خطأ الحاكم هو الأساس، وأن خطأها مجرد حيلة يلجأ إليها العاجز لمسايرة أزمة صنعها الكبار ولا تقدر هذه المواطنة الفقيرة على مواجهتها إلا بالاستمرار في خداع كل من يقع تحت مسؤوليتها، وهكذا تكبر الخدعة ويمارسها الجميع حسب التسلسل الاجتماعي.
(6)
في زيارته إلى غيط العنب، وقف الرئيس السيسي حدادا على شهداء مركب رشيد الذين لم يحتملوا انتظار طبخة وعاء "الحجارة المسلوقة" فسعوا في مناكبها بحثا عن لقمة العيش، لكنهم لقوا حتفهم وهم في طريقهم للبحث عن الرزق، لهذا نحتسبهم شهداء، ليس نكاية في النظام، ولكن حباً للحياة، لم يقل الرئيس لنفسه: "ويحك يا سيسي.. لقد قتلتهم"، لكنه أدى واجب العزاء، وغدا يطالب الفقراء بتقديم أقراطهم لصندوق "تحيا مصر" أسوة بالحاجة زينب، وتستمر إعلانات التبرع لدعم الدولة و"صبح على مصر بجنيه"، وتتواصل دعوة الحاكم للجياع بأن يصبروا ويربطوا الأحزمة على البطون، فالضرورة تقتضي، ومصر أهم من ناسها، و"نموت.. نموت وتحيا مصر"، لكن هل مصر هى السلطة وفقط؟، وهل السلطة هي هذا النظام وفقط، أم أن هناك طريقة أخرى للفهم والتصرف والسياسة؟
(7)
لن أكتب روشتة للإجابة، فأنا الآن أنادي بالتعددية، وخطأ الرأي الواحد، والحكم الفردي، لذلك أنتظر إجابتكم جميعا، إجابة عموم المجتمع على أسئلة حياته، وأسوق لكم مثالا للتذكرة، اخترته من سيرة الفاروق حتى لا نبتعد عن الأمثلة التي طرحناها، ففي أحد الأيام كان الفاروق عمر رضي الله عنه يتفقد الأسواق والطرقات في المدينة المنورة ومعه الصحابي عبد الرحمن بن عوف، فإذا بقافلة تحط رحالها على تخوم المدينة، فقال: يا عبد الرحمن تعالى نحرس هذه القافلة، وبينما هو جالس مع صاحبه سمع صوت بكاء طفل، فنظر ناحية الصوت وجد الطفل يبكي على حجر أمه، وهي لا تهتم ولا ترضعه، فقال للأم: أرضعي طفلك، فردت عليه: أرضعته، لكن الطفل ظل يتابع البكاء، فعاد عمر وقال لها: أرضعي طفلك، فتظاهرت بذلك قليلا ثم قالت: أرضعته، لكن الطفل تابع البكاء، شك عمر في الأمر فقال للمرأة غاضباً: يا أمة السوء أرضعي طفلك، حينئذ ردت المرأة عليه بغضب وهي لا تعرفه: وما شأنك بنا؟ إنني أمنعه من الرضاع حتى أفطمه، قال عمر متعجبا: لماذا تفطمينه وهو لا يقوى على بلع الطعام؟، قالت لأن عمر منع عنا العطاء (إعانات لتربية الأطفال) إلا بعد الفطام.
حينها ضرب عمر جبهته بيده وهو يقول: ويحك يا عمر كم قتلت من أطفال المسلمين؟.
ويحك يا "نظام الضرورة" كم قتلت...؟