على امتداد ربع قرن كانت البنية التحتية هى الورقة التى يرفعها الحزب والحكومة فى أوجه المصريين للتأكيد، على إنجازاتهما، يؤكدان فى التقارير السنوية أن وجه الحياة تغير فى مصر بفضل اهتمام الدولة بالبنية التحتية، ويؤكد الكتيب الأخير لمركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار، التابع لمجلس الوزراء، اتصال 90% من المدن المصرية بأحدث شبكات الصرف الصحى، وتؤكد الحكومة أن أغلب إنجازاتها فى مجال الصرف الصحى لاتزال قابعة تحت أقدامنا لا نلتفت إليها، تدعونا الحكومة أحيانا للتمهل والنظر إلى ذلك الإنجاز، لكننا نتوقف فعليا للنظر والتمعن فى البنية التحتية، حينما تتساقط أمطار الشتاء أو حينما نصحو لنكتشف انسدادا، نقف لأن الشوارع فى عموم مصر تتحول إلى بركة مياه كبيرة يستحيل معها استمرار الحياة، وتتعامل مع الأزمة بعربات الشفط وعمال النظافة ذوى المقشات. وبينما الحياة متوقفة فوق السطح.. ترصد «المصرى اليوم» حياة موازية تحتها.. هشة ومفككة وتنبئ بما سيطفو على السطح مستقبلا.. تتناول الحياة بين منطقتين إحداهما لاتزال تتعامل مع «طرنشات الصرف» والأخرى داخل «شبكات الصرف».. الاتفاق الوحيد بين المنطقتين كان فيما ينذر به الوضع أسفل أقدامنا.. هكذا كانت الصورة فى مواسير الصرف الصحى فى مصر.
رحلة الصرف الصحى من «دار السلام» إلى محطة المعالجة أو مثواها الأخير فـــــى الصحراء
فى الثامنة صباحاً.. كان المهندس يسرى كامل، مهندس تصميم المشروعات فى هيئة الصرف الصحى، يقف داخل محطة أحمد زكى للصرف الصحى بمنطقة دار السلام، ليشرح طريقة عمل محطات الصرف الصحى فى مصر، يقول إن شبكات الصرف الصحى تبدأ بشبكات تجميع صغيرة، ثم شبكات كبيرة وأنفاق، ومحطات رفع، ومحطات معالجة، موضحاً أن محطة أحمد زكى هى محطة رفع وتمثل المرحلة قبل الأخيرة فى رحلة مياه الصرف الصحى فى مناطق دار السلام والبساتين والمعادى وحدائق المعادى، وتصل طاقة رفع المحطة إلى 250 ألف متر مكعب يومياً.
تبدأ رحلة الصرف الصحى بخروج المياه خلال مواسير 6 بوصات تتجمع فيما يسمى غرف التفتيش التى توجد تحت الأرض أمام البنايات، ثم تنتقل إلى مواسير قطرها 1800 ملليمتر، مروراً بمواسير أكبر تتراوح أقطارها بين متر ونصف، وخمسة أمتار، وصولاً إلى محطات المعالجة، أو إلقائها فى الصحراء.
فى شارع أحمد زكى يخرج المهندس يسرى ومعه 2 من العمال يعملان فى مجال الصرف الصحى هما ديب فوزى محمد، وبيومى عبدالونيس، يقع الاختيار على إحدى البالوعات فى جانب الشارع لفتحها حتى نتمكن من النزول، يعلق المهندس أن على كل خط توجد فتحتان متوازيتان، إحداهما لا تصلح للنزول لأنها تطل على المياه مباشرة ويتم من خلالها معرفة منسوب المياه وإصلاح المشكلات، والثانية تسمح لفريق العمل بالنزول لوجود حائط خرسانى يطل على مياه البالوعة، نسأله «وكيف يمكن تمييز فتحة المياه من فتحة النزول»، فيجيب بأنه من خلال الخرائط فقط، وأنه لا يعرف تحديدا ما يوجد تحت البالوعة التى اخترناها.
يتولى «ديب» عملية فتح البالوعة ويعطى أوامره لرفيقه «بيومى»، عمل «ديب» فى مجال الصرف الصحى منذ 18 عاما، ويرى أنها مهنة شاقة ولا يتم تقديرها على الوجه الأمثل بإلاضافة إلى قلة الأدوات والمعدات، يمسك ديب «أجنة» و«بيومى» بقطعة معدنية خفيفة، يقوم بيومى بإزالة التراب حول حلق البالوعة، بينما يضع «ديب» الأجنة فيما يسمى فتحة البالوعة، يحاول فتحها مرارا وتكرارا، ثم يؤكد أن العملية تحتاج إلى مطرقة ورجل ثالث، يطلب المهندس رجلا ثالثا لمساعدة الرجلين، ويصاب المرور أمامنا بسكتة بسبب حالة الإشغال التى يقوم بها العمال.
يأتى الرجل الثالث «سعيد نعمان» ويطرق البالوعة مباشرة وهو يشرح ما يفعله بقوله: «بنحاول نعمل خلخلة لطبقة التراب الموجودة عشان نفتحها»، يضع الأجنة ثم يطرق عليها فيفشل، يحاول الرجال الثلاثة خلخلة «البالوعة» فتظل ثابتة فى مكانها، يمر الوقت، نصف الساعة قبل أن يعلن «ديب» أن البالوعة لن تنفتح ويجب البحث عن بالوعة أخرى.
يبرر المهندس ذلك بأن ضغط السيارات، وعدم فتح البالوعة لسنوات يجعل عملية فتحها صعبة وأحيانا مستحيلة، أسأله عن الوضع إذا ما تساقطت أمطار أو حدث عطل ما وكيفية فتحها بعد أن فشل رجاله فى فتحها فى جو صحو ويوم مشرق وظروف مهيأة، فيجيب: «عشان الناس تعذرنا وتعرف إحنا بنعمل إيه»، ثم يكمل بأن طريقة «الطرق» و«الأجنة» هى الطريقة المتبعة فى كل شبكات الصرف الصحى فى مصر لأن «البالوعات» قديمة، وغير مصممة لتكون سهلة الفتح أوقات الطوارئ، ويضيف أن للأمر فوائد على الجانب الآخر قائلاً: «أصلها لو سهلة الفتح هتتسرق زى ما بيحصل».
نصل إلى البالوعة الثانية، يبدأ الرجال عملهم، يطرقون البالوعة ويزيلون التراب ويحاولون بالأجنة، يقف «ديب» متلفتا حوله، ثم يذهب إلى محل قريب ويستعير «القلة»، ويبدأ فى صب القليل من الماء حول حلق البالوعة، يشرح ما يفعله «أصل الميه بتساعد فى الخلخلة، عشان نعرف نحرك البالوعة من مكانها»، يكمل «من 18 سنة لحد النهارده واحنا بنشتغل بنفس الطريقة فى فتح البالوعات، وبنتعب لحد ما نعرف نحدد حلق البالوعة بالأجنة، عشان كدة لو الشوارع طافحة بالصرف الصحى الموضوع بياخد مننا وقت».
يشرح المهندس يسرى أن الغازات السامة فى الصرف الصحى لا تساعد القوارض على العيش حيث ينطلق من المياه غازا الميثان وكبريتات الهيدروجين السامان، وأن المتواجد فى البالوعات الحشرات فقط مثل الصراصير، وأن تنظيف «البيّارات» يكون من خلال معدات كبيرة، إلا إذا كانت الماسورة صغيرة فتتم الاستعانة بغواص يقوم بتطهير «البيارات» بنفسه، وهو ما يتطلب معدات وإجراءات أمن صناعى لضمان سلامته.
يستمر «ديب» ورفيقاه فى محاولاتهم لفتح البالوعة، يقف «بيومى» مسترخيا، يتذكر أنه عمل فى هذه المهنة بعد أن أتعبه صدره من العمل فى مصانع الطوب، لكنه اكتشف أن رائحة المجارى أسوأ، لكنه إلى الآن لا يجد مهنة أخرى ليمارسها، يلاحظ «ديب» أن «بيومى» يستريح فينهره، تستمر محاولاتهم إلى ما يقرب من ساعة حتى ينجحوا فى فتح البالوعة، يكاد الغطاء المعدنى الضخم أن يسقط فوق قدم «ديب» العارية، لكن العناية الإلهية تتدخل، يمسكون بالغطاء المعدنى بإحكام قبل أن يكتشفوا أن البالوعة مفتوحة مباشرة على مياه الصرف ولا يمكن النزول منها.
نقرر النزول من إحدى البالوعات التى تتسلمها الشركة لتشغيلها ضمن مشروع توسع فى شبكات الصرف الصحى وهو مشروع «النفق الصخرى عقد 13 أ» ننزل إلى الماسورة التى تستقر 10 أمتار تحت سطح الأرض، بالأسفل يوجد عامل يقوم بمسح الطبقة العازلة المبطنة للماسورة، بينما تبدو بعض أجزاء الماسورة التى ستنضم للعمل ضمن شبكة الصرف لم يتم تثبيت الطبقة العازلة بها جيدا، يعلق المهندس: «عيوب التبطين بتسبب دخول غازات للماسورة وهو ما يقلل من عمرها الافتراضى ويسبب تآكلات داخلها».
وحتى تكون الصورة كاملة فشبكة الصرف الصحى المصرية لا تماثل ما نراه فى الأفلام الوثائقية أو الدرامية من شبكات الصرف الصحى فى الدول الأوروبية، حيث لا يوجد طريقان موازيان للماسورة على امتدادها يسمحان للمهندس بتفقدهما، وإنما تبة يشاهد من خلالها الماسورة، وبمجرد ضخ الماء فى الماسورة يستحيل أن تتابع حالتها أو وجود كسر فيها، ويتطلب الأمر تفريغ الماسورة بالكامل من المياه وهو ما يؤثر على كفاءة الصرف الصحى فى عدد من الخطوط.
يبلغ قطر الماسورة التى نقف داخلها 2.5 متر، وتعتبر ماسورة متوسطة، ويعلق المهندس «يسرى» بأنه لا توجد فى مصر شبكات خاصة بالصرف الصحى منفصلة عن شبكات المطر داخل عموم الجمهورية، ويعلل ذلك بأن الأمطار قليلة الحدوث، حتى إن كانت فى بعض الأعوام كثيرة - مثلما حدث العام الماضى من أمطار وسيول- فالتخطيط العام يجعل شبكات الصرف الصحى والأمطار واحدة، وهو ما يؤثر على شبكات الصرف الصحى وكفاءتها وقدرتها الاحتمالية، كما يهدر مياه المطر النقية التى يمكن استغلالها لو لم تختلط بالصرف الصحى، ويتابع: «أسوأ ما فى تصميم البالوعات فى مصر هو أنها غير مصممة لاستقبال الأمطار أو التعامل معها وامتصاصها بشكل كبير فى حالة وقوعها، وهو ما يتسبب فى تحول القاهرة الكبرى إلى بركة كبيرة بمجرد سقوط الأمطار». مؤكداً أن مواسير الصرف يجب أن تمتلئ إلى 3 أرباعها فقط حتى يتيح الهواء المتبقى فى الماسورة لتكوين بكتيريا هوائية لأنها مفيدة، أما البكتيريا اللاهوائية التى تتكون بسبب امتلاء المواسير بمياه الصرف الصحى فتتسبب فى وجود تعفن ورائحة كريهة.
يقف «أيمن» العامل الذى يقوم بتنظيف الطبقة العازلة فى الماسورة، ويؤكد أنه يعشق العمل تحت الأرض لأن «مفهوش وجع دماغ»، يضيف «أنا أصلا ساكن فى المنوفية، وموجود هنا لحد ما يضخوا المياه فى الماسورة دى وتبقى زى دى»، يشير إلى امتداد الماسورة التى ترتفع فيها مياه الصرف الصحى، تصيبك الرائحة بحالة من الصداع والرغبة فى القىء، يكمل «أيمن»: «فى بلدى فى المنوفية، الصرف الصحى مدخلش فى حتت كتيرة، ودخل عندنا من كام شهر، مع إنها بلد سيادة الريس، يعنى مفروض يبقى فيه اهتمام بناسها أكتر من كده، ده الجار له حق عليك.. مابالك واحنا بلديات».
يعود أيمن لتنظيف عازل الماسورة، ونعاود الصعود على السلم الحديدى، بينما تتلاشى صورته تدريجيا وهو لا يزال يمسح ماسورة تقع أسفل «دار السلام»، لا يدرى بالزحام الواقع من فوقه، يتوقف خياله عند حدود محافظته - محافظة الرئيس - التى يحلم فيها بأن يحصل «ناسها» - لأنهم جيران الرئيس - على بنية تحتية أفضل.
هنا الطرنشات.. المكان الذى يتعايش فيه «الكاسح» مع فضلات المصرييـن
فى العاشرة صباحا يقف أحمد عبدالرحمن، الشهير بـ «أحمد العِدل»- بكسر العين - منتظرا «تسخين» سيارته القديمة، الأمر الذى يطول لنحو نصف ساعة يشغلها «العدل» بتدخين سيجارته الصباحية وتحديد خط سير عربة كسح «الطرنشات» فى قرية «بيدف»، التابعة لمحافظة 6 أكتوبر، ويعطى تعليماته لمساعده محمود، تمر سيدة تحمل فوق رأسها جردلا معدنيا مليئاً بمياه الصرف الصحى، تنزل الجردل بيديها فيتصبب بعض المياه عليها، ثم تهم بإلقائها فى الساحة الخارجية للمنزل، فتخرج المياة سوداء اللون عفنة الرائحة، ينظر لها «العدل» ويعلق: «أهو ده اللى بيتعبنا واحنا بنشتغل، أصل الناس هنا غلابة ومش حمل إن عربية كسح الطرنشات تروح لهم كل يوم والتانى، فمياه الغسيل والحموم بيخزنوها فى جرادل ويرموها فى الشارع أولاً بأول عشان يوفروا، وده بيخلى البيارات اللى موجودة فى البيوت مفيهاش ميه، إنما مليانة بالإفرازات الصلبة، وبالتالى المكنة اللى باشفط بيها مبتعرفش تشفط، وبابقى مجبر إنى أنزل بنفسى جوّة البيارة أنضفها بإيدى».
يبدأ «العدل» رحلته بكسح بيّارة مسجد القرية، حتى يطرح الله البركة فى عمله، يفتح محمود البيّارة، ويخرج «العدل» خرطوم الشفط ويدير الماكينة، تحتاج بئر المسجد إلى نحو 15 «نقلة» ليتم تفريغ أغلبها، يتابع «العدل» مؤشر ارتفاع المياه فى خزان السيارة التى تصل إلى 4 آلاف لتر.
بدأ «العدل» الذى لم يبلغ الرابعة والعشرين عمله ككاسح لطرنشات القرية منذ 5 سنوات، كان قبلها يعمل سائق تاكسى، تعلم المهنة من كاسح طرنشات عجوز يدعى «حمادة القط» فى «العياط»، وبدأ فى العمل كأجير على سيارة الكسح، يدبر الأموال اللازمة حتى يشترى سيارة كسح خاصة به، يصف ذلك بأنه حلم، ويكمل: «لو اشتريت عربية ملك هبقى حققت كل اللى نفسى فيه، أصل الشغلانة مش هتندثر زى ما بيقولوا لأن الحكومة استحالة توصل شبكة صرف صحى عندنا فى البلد».
يمتلئ خزان السيارة، فيمسك «العدل» ومحمود «بحفنة من التراب ليسدا بها ماسورة الصرف، يمنعان مياه الصرف المتسربة من ماسورة الشفط حتى لا يزداد تسريبها، تتبقى فوق أيديهما طينة خفيفة إثر اختلاط مياه الصرف بالتراب، فيضعان أيديهما تحت الماسورة ليغسلان بمياه الصرف الصحى هذا الطين، ويركبان السيارة، فى رحلة التخلص من «نقلة» الصرف الصحى الأولى خارج المدينة، يسيران نحو 8 كيلومترات إلى أن يشاهد «العدل» مجموعة من الأعشاب على الطريق السريع فيتوقف، يتفاخر بأن الأعشاب نمت بفعل مياه الصرف الصحى وأصبحت علامة مميزة لموقع التصريف، يقف محمود أمام «باب التفريغ» ويفتحه فتندفع مياه الصرف الصحى بقوة، سوداء اللون، تتداخل فيها رائحة العطن والفضلات، مع رائحة نفاذة «لماء نار مخفف» يستخدمه الأهالى لتسليك البيّارات، تصيب الرائحة من صادفه الحظ لمشاهدة المنظر أو مر بجانبه بتقلصات معوية تدفعه إلى القىء، ويعلق «العدل»: «أول ما اشتغلت كنت أتقيأ كل ما أفتح باب الخزان، لكن دلوقت خلاص اتعودت»، كتر ما اتعودت مبقتش قادر أميز أى ريحة حلوة تانية، يعنى السجاير والهدوم وحتى الكولونيا والصابون بيبقى كارف عليهم ريحة مجارى وصرف، وبعدين البيوت بترمى قدامها جرادل الصرف أول بأول، فبديهى تبقى الريحة موجودة فى البلد كلها حتى لو بدرجات مختلفة».
تستهلك النقلة نحو ساعة إلا الربع، يخرج «العدل» لا يعرف عدد النقلات التى سيقوم بها، يجلس دائما فى انتظار اتصال هاتفى على محموله القديم، خاصة أن أصحاب المنازل لا يفرغون بيّاراتهم بالكامل، يكتفون بنقلة أو اثنتين، يضيف «العدل»: «الناس بتقعد بالسنين ما بتنضفش بيّاراتها، وفيه ناس من كتر ما بيّاراتها مليانة بيردموها ويحفروا جنبها بيّارة جديدة من باب التوفير، المشكلة كمان فى إن كل واحد مسؤول عن بيّارة بيته، يعنى أنا بيارة بيتى مفتحتهاش من 15 سنة، لأنها مبنية غلط فبتسرب مية، المية دى بتختلط بالمية الجوفية اللى بنسحبها بالطلمبات، عشان كده أغلب القرية عندها فيروس فى الكبد، وفشل كلوى، الناس عندنا بتموت صغيرة أو بتقضى وقت طويل من حياتها بتجرى على المستشفيات عشان الكبد والكلى، دى درجة ملوحة المية اللى بتطلع من الطلمبات بتوصل 700».
الصيف بالنسبة لـ«العدل» موسم لأن المصريين أكثر استخداما للمياه فى حياتهم اليومية، وكثيرا ما يجلس فى منزله عدة أيام فى الشتاء دون عمل، أمام أحد المنازل يتوقف «العدل»، يخرج طفل تعرى نصفه السفلى، يسند بظهره بجوار سيدة عجوز تنتمى للمنزل، بينما تطالبه صاحبة المنزل بتنظيف البيّارة، يعلق دون أن نسأل «بير البيت ده ما اتفتحش بقاله سنتين، وهياخد مننا شغل كتير أوى»، ينظر فى ساحة البيت فيجد أن أصحابه قد وضعوا طبقة أسمنتية فوق البيّارة، يحمل «أجنة» - قطعة حديد مدببة - ويبدأ فى دق الأرض.
النقلة تكلف صاحب المنزل 20 جنيها، فى النقلة الأولى يتحدث «العدل» عن أنه لا يفكر فى الزواج رغم أنه وصل لسن الزواج فى قريته لسببين، أولهما نظرة عائلات البلد الدونية لمن يعمل فى مجال الكسح، وثانيهما أن سعر الذهب تجاوز 200 جنيه للجرام.
يعود «العدل» ويخلع هدومه ونعله، يؤكد أنه لا يرتدى أى ملابس أو يستخدم أدوات خاصة فى عملية «التطهير»، ينزل إلى البيارة ويبدأ بكسح الفضلات الآدمية المتكونة منذ عامين بيديه وقدمية، ينادى على محمود الذى يمده بالخرطوم لشفط تلك الفضلات بعدما نجح فى تجميعها فى أحد أركان البيّارة، يرفع الخرطوم حتى يقوم بكسح المزيد من الفضلات، بينما تقوم صاحبة المنزل بإعداد أكواب الشاى، تناول الرجل الذى يستقر على بعد نحو 7 أمتار تحت الأرض وسط فضلاتهم كوبه، فيتوقف قليلا عن العمل ويبدأ فى احتساء الشاى، ويضيف: «الناس بتحاسبك على النقلة اللى بتشدها بالعربية على طول واللى بتنضفها بإيدك بنفس السعر»، يرشف الشاى ثم يكمل «لكن إحنا اتعودنا على ده، لأن مش معقول الفلاح كل يوم والتانى هيلاقى فلوس يكسح، أصل أنا أبويا فلاح وعارف، ورفضت أشتغل معاه فى الأرض، لأن اللى بيطلع من الأرض بيكفى بس حتة جبنة وطبق سلطة والباقى الحكومة بتاخده برخص التراب».
يكمل «العدل» مهمته التى تمتد نحو ساعة، ثم يساعده محمود فى الخروج وقد اصطبغت يداه وقدماه باللون الأسود، يساعده محمود على دخول الحمام الخاص بالمنزل، يحمل كوز مياه ويكتفى بالصب فوق يديه وقدميه حتى تزول آثار العمل من عليهما، ويخرج «العدل» قاصدا الطريق الصحراوى لتفريغ نقلته الأخيرة قبل أن يرتفع أذان العصر، يقرر الذهاب إلى المقهى القريب ليستريح من تعب اليوم، ويصافحنا بيديه ويربت على أيدينا فى حميمية واضحة، يكمل طريقه وسط البيوت المتراصة فى اتجاه المقهى، بينما تخرج سيدة من خلفه حاملة فوق رأسها إناء معدنيا، تلقى محتوياته على الأرض لتفوح رائحة العفن والفضلات.