كثُرت فى مصر قديما المدارس الإسلامية الداخلية الموقوفة، وكانت الدراسة فى هذه المدارس داخلية بصورة كاملة، لتمكين طلاب العلم من الاتصال بالشيوخ والأساتذة فى كل وقت، وممارسة أنشطتهم الروحية، والعلمية، والعملية، والرياضية بكل يسر، الأمر الذى يتيح لكل طالب الفرصة لتنمية مواهبه بنفسه. كما يهدف النظام الداخلى فى المدارس إلى إشاعة جو المحبة والأخلاق، واستلهام عناصر القدوة من العلماء والمدرسين، والتخلق بأخلاق الإسلام وقيمه، وتشجيع الطلاب على التفرغ التام لطلب العلم، بحيث لا تشغلهم متطلبات المعيشة وأعباؤها الكثيرة عن ذلك، كما تهدف أيضا إلى بث روح التعاون والعمل فى فريق، والتدرب على ممارسة الإدارة وبعض الأعمال الحياتية بصورة عملية وبشكل مبكر.
فالناظر المدقق فى تاريخنا يلحظ أن هذه المدارس، التى أبدعها العقل المسلم فى العواصم المختلفة، خصوصا فى مصر المحروسة، يجد أنها قد أثْرت الحياة الفكرية والتربوية والثقافية والاجتماعية بشكل لم يسبق له مثيل فى تاريخ الحضارات الإنسانية، وللأسف لم نستطع تسويق بضاعتنا تسويقًا يؤكد مكانتنا، بل سوقها لنا غيرُنا، ثم تُصدر إلينا بصبغةأخرى، وهى ليست فى واقع الأمر إلا بضاعتنا ردت إلينا..!!
إننا لم نستطع- فيما سبق- أن ننطلق من رصيد حضارتنا العريض إلى آفاق النهضة والتقدم والريادة، كما انطلقت شعوب كثيرة، كانت فيما سبق قليلة الرصيد الحضارى، مثل: اليابان، التى دمرت عن بكرة أبيها (نفسيًّا ومعنويًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا)، بعد إلقاء القنابل الذرية على هيروشيما ونجازاكى.. وغيرها كثير.. وأعتقد أنه بعد الثورة المباركة التى انطلقت يوم 25 يناير الماضى سوف يتغير الحال، وننقب عن كنوز تراثنا المصرى والعربى والإسلامى، لنمهد الطريق أمام نهضة حقيقية، نهضة بالأعمال وليست نهضة أقوال.
ولنقرأ سطورا مما كتبه القدماء حول فلسفة المدرسة المصرية والإسلامية ودور العلم ومساكنها وضوابطها والسلوكيات الواجب الالتزام بها، وسنجد أنفسنا أمام صروح من الفكر التربوى المعاصر الذى يزعم أصحابه أنه ثمرة من ثمار قرائحهم وفيض من إبداعات عقولهم.
إن تاريخنا عظيم، وليس فيه أبدًا ما نستحى منه، وليس فيه ما يعكر صفونا، بل فيه الخير كل الخير.. فيه ما يجعل هاماتنا عالية شامخة فى عنان السماء.
وأستأذن القارئ الكريم لأصطحبه فى رحلة تربوية ليرى العجب العُجاب.. من خلال جولة سريعة فى المساكن الداخلية فى المدارس التاريخية فى مصر وأيضا فى غيرها، وما قدمته للتربية من إسهامات، قلما يجود الزمان بمثلها.
لقد لعبت هذه المساكن الداخلية فى المدارس عبر التاريخ دورًا تربويا محوريا استفاد منه الغرب قبل الشرق، وأسست لبزوغ الكثير من العلوم والنظريات التربوية التى توجه عمليات التعليم والتربية توجيها سليما التى أبدعها العقل المسلم.
فلم تكن هذه المدارس أبدًا مكانًا للسكنى والمُقام فحسب، بل كانت أماكن للتربية والتهذيب والتعليم والعبادة والتضرع لله، وكانت محاضن مهمة لتكوين القيم والأخلاق، واستنبات عناصر القدوة من أهلها الحقيقيين، وكانت بوتقة لاستنهاض عناصر الخير والهمم والمروءة فى نفوس المتعلمين.
وهذا ما لاحظناه من خلال استمتاعنا بما كتبه الدكتور إبراهيم بن محمد الحمد المزينى، فى دراسته عن المساكن الداخلية فى المدارس الإسلامية، المنشورة فى مجلة المؤرخ العربى، بالعدد السادس، المجلد الأول، مارس 1998، والتى نقتطف فى السطور التالية بعض المعالم التربوية مما جاء فيها.
حيث أشار الكاتب إلى أن المساكن فى المدارس الإسلامية عبر التاريخ كانت تختلف فى جودتها وإمكاناتها من مدرسة لأخرى، إذ اشتهرت كثير من المدارس بجودة مساكنها، وانعكس ذلك على إقبال طلبة العلم عليها.. وكان الساكنون فيها ينعمون إلى جانب إقامتهم بخدمات متعددة ومتنوعة، وكانت أيضا تختلف من مدرسة لأخرى تبعًا لظروف أوقافها، وشروط واقفيها. وكانت أبرز تلك الخدمات تتمثل فى: الجرايات والرواتب الشهرية، والطعام واللباس- كالنظام الذى كان سائدا فى الأزهر الشريف- فالطعام كان يعدُّ فى مطابخ خاصة داخل المدارس ويقوم بإعداده طهاة مختصون، وكثيرًا ما تشير حجج الأوقاف الخاصة بهذه المدارس إلى كثير من الأطعمة التى يجب أن تُوفر للطلاب من: خبز ولحم وأرز وعسل وحبوب ورمان وغير ذلك. كما كانت توفر الألبسة لساكنى المدارس طيلة مدة إقامتهم فيها.. فضلا عن الحراسة والنظافة والإنارة، إذ لم يكن الدخول والخروج من المساكن الداخلية يتم عشوائيا، بل كان يتم وفق نظامٍ دقيقٍ، وضعه القائمون على هذه المساكن، فهناك حرس يلازم باب المدرسة لصيانتها وحفظ ما فيها من أثاث ومتاع، ولمراقبة وتنظيم الداخلين إليها والخارجين منها وفق نظم معينة. وكان يشترط فى البوّاب أن يكون يقظًا أمينًا. وكان هناك الفرَّاشون الذين يتولون عملية تنظيف المدرسة ومساكنها الداخلية، وهناك القومة الذين يتولون الإشراف على إنارة المدرسة ومساكنها الداخلية وتعمير القناديل وعمل الصيانة اللازمة لها ومسحها وتنظيفها بصورة دورية منتظمة.. وهناك الرعاية الطبية الشاملة للمدرسين والطلاب، وكان الطبيب يتوجه إلى المريض من المدرسين أو الطلبة فى مكان إقامته، ولا يكلف المريض الحضور إلى الطبيب، وكان يقدم له الدواء الناجع، ويظل يتردد عليه إلى شفائه التام.. وللحديث بقية.
أحمد على سليمان ..الباحث برابطة الجامعات الإسلامية