لم يختلف حال السيدة جازية إسماعيل عن حال غيرها، ممن يبحثون عن كيس دم ينقذ حياتهم فى مستشفيات وزارة الصحة، التى ترفع شعار «نقطة دم تساوى حياة». يكاد الأمل ينتهى عند سماع جملة «مفيش دم» فى المستشفى، ليتولى المواطن بنفسه عبء توفير الدم بأى طريقة، لمريض قد يدفع حياته ثمنًا لهذا العجز الذى تعانى منه بنوك الدم الحكومية. ما تصرفه المستشفيات الحكومية للمريض وأسرته بدلًا من أكياس الدم غير المتوافرة، هو كلمة «اتصرفوا». الكلمة التى تبدأ معها رحلة معاناة للبحث عن كيس دم تمر بالحصول عليه بـ«الواسطة» أو «الاستبدال» أو شرائه من المستشفيات الخاصة بأسعار مبالغ فيها، وتنتهى بالحصول عليه من «السوق السوداء» عبر «تجار دماء» يبيعون الدم على الرصيف مُغلفًا بورق الجرائد، ويعملون بسرية تامة ويتواصلون مع «العميل» بطريقة مخابراتية، وقد تنتهى الرحلة بموت المريض، فى حال عدم قدرة المواطن على توفير الدم بنفسه بأى من هذه الطرق، أو فى حال إصابة الدم المجهول المصدر بأى فيروسات. فى عام 1997، وقعت الحكومة المصرية مع نظيرتها السويسرية بروتوكولًا لإنشاء المركز القومى لخدمات نقل الدم المعروف اصطلاحًا باسم «المشروع السويسرى». والذى كان مقررًا له أن يكون المزود الوحيد للدم فى مصر، وهو ما لم يحدث، رغم مرور ما يقرب من 20 عامًا على انطلاق المشروع.
تدعم وزارة الصحة كيس الدم الواحد بـ 400 جنيه، إلا أن هذا الدعم لا يذهب بالضرورة لمن يستحق، بطرق متعددة، من بينها تحمل الوزارة ثمن كيس الدم مرتين، مرة بالدعم المباشر، ومرة أخرى ببيع «المشروع السويسرى» الدم المدعم للمستشفيات الحكومية التى تدفع مرة أخرى من ميزانية الوزارة، أيضًا يبيع المركز القومى لخدمات نقل الدم أكياس الدم المدعمة للمستشفيات الخاصة دون أن يلزمها بسعر بيع محدد، ما يجعل هذه المستشفيات تبيعه بأسعار مبالغ فيها، لتحصل هى فى النهاية على الدعم الذى قدمته الدولة. كذلك يتم إهدار الدم المدعم من خلال قيام أشخاص بالحصول على أكياس الدم من المستشفيات الحكومية وبيعها فى «السوق السوداء».
مستندة على كتف ابنها، تخرج جازية إسماعيل، (53 عامًا) التى أضاف المرض على ملامح وجهها ١٠ أعوام على الأقل، من أحد مراكز غسيل الكلى، المتعاقدة مع الهيئة العامة للتأمين الصحى بالمحلة الكبرى، بعد ساعات من انتهاء الجلسة.
تُشير نتائج تحليل شهر مايو 2015، الذى أجرته «جازية» إلى أن نسبة الهيموجلوبين فى دمها تصل إلى 6.2 جرامًا (39%)، فيما يتراوح المعدل الطبيعى للسيدات بين 12: 16 جراما، أى أنها تعانى من فقر فى الدم. تقول الدكتورة جيهان يوسف، مدير بنك الدم بمستشفى الزيتون بالقاهرة، إن «هذه النسبة المنخفضة من الهيموجلوبين تهدد حياتها بشكل خطير خاصة مع الغسيل الكلوى»، وتضيف: «هذه الحالة بحاجة إلى نقل دم فورى».
على بعد 16 كيلومترا من نفس الموقع الذى اشترينا منه الدم، يقع مستشفى بلقاس العام الذى ترقد على أحد أسرته سمر عبدالعال همام، فى انتظار من يوفر لها 3 أكياس دم من فصيلة A-، بحسب استغاثتها المنشورة على صفحة «بنك الدم المصرى»، على موقع «فيس بوك»، حصل والدها على كيس منها من مستشفى الأورام بالمنصورة، يقول: «قالوا لى عشان خاطر ظروفك، ومفيش دم متوفر هنديك كيس واحد».
يقول شقيق المريضة، محمد عبدالعال: «ذهبت إلى بنك دم الشيخ حسانين (بنك الدم الإقليمى بالدقهلية- المشروع السويسرى) أخبرونى أن الفصيلة غير متوفرة، وعندما اتصلت بهم مرة أخرى رد على أحدهم (نحتفظ برقم هاتفه)، وقال لى: خذ رقم تليفونى الشخصى، وكلمنى عشان نتواصل مع بعض، وتجيب 50 متبرعا، مقابل كيسى الدم، وتبلغ تكلفتهما 130 جنيهًا للكيس.. هذه الأموال تأخذها الدولة وليست لى.. خليك معايا وأنا هبعت لك دكتور بحملة ياخد الدم من المتبرعين بعد كده تيجى المركز».المزيد
ملايين الجنيهات تنفقها وزارة الصحة سنويًا لـ«دعم أكياس الدم»، كما تقول الدكتورة سمية عبدالمنعم، مديرة الإدارة العامة لبنوك الدم بوزارة الصحة: «الوزارة تدعم كيس الدم الواحد بحوالى 400 جنيه، وهذا الدعم يشمل التحاليل والقرب أو الأكياس وفواتير الكهرباء وأجور العاملين وغير ذلك». فيما تقول الدكتورة منال صلاح إن سعر بيع وحدة الدم فى المراكز الإقليمية لبيع الدم المعروفة فى الوزارة باسم «المشروع السويسرى». ثمن الكيس رسميا 110 جنيهات لا يمثل تكلفته الفعلية، ويتم دعمه بأكثر من ذلك من قبل الوزارة، حسبما تقول صلاح.
وبحسب كتاب السياسة القومية لخدمات نقل الدم، الصادر عن وزارة الصحة فى 2007: «تعد كل من بنوك الدم التخزينية الحكومية لدى المستشفيات، وبنوك الدم الأخرى غير الحكومية (القطاع الخاص والمنظمات الأهلية)، لدى المستشفيات، من العملاء الرئيسيين لخدمات نقل الدم القومية»، ولكن دون إلزام هذه المستشفيات بسعر بيع وحدات الدم المدعمة التى تشتريها من مركز خدمات نقل الدم، ما يجعل أسعار بعض أكياس الدم تصل إلى 800 جنيه حسب نوع الفصيلة.المزيد