بطرقات قوية على الأبواب في فجر يوم 3 سبتمبر، فاقتحامات، بدأت قوت أمن الدولة تنفيذ أوامر السادات باعتقال عدد من رموز التيارات السياسية المختلفة، في مذبحة باردة لم يُعرف مغزاها في حينه، فحتى فكرة استهداف الرئيس للمعارضين غابت، لأنه القائمة مليئة بالمقربين وبعض المحسوبين عليه.
يومان كاملان على هذا الحال، تُطرق الأبواب وتُقتحم المنازل دون إنذار أو تفسير، حتى صباح 5 سبتمبر، يوم وقف السادات داخل مجلس الشعب ليلقي خطابا على الأمة، ليقول: «هناك فئة من الشعب تحاول إحداث الفتنة الطائفية، وأن الحكومة حاولت نصح تلك الفئة أكثر من مرة».
دفعت تلك الكلمات بالأزمة إلى مرحلة أصعب، في ظل سياسة كسب عداوات الجميع، اختلفوا في الأيديولوجيات واجتمعوا خلف سور المعتقل، دون مبرر منطقي أو تفسير واضح، سوى أن الرئيس يرى الرافضين لاتفاقية كامب ديفيد «دعاة فتنة»، وأن المعارضة في الوقت الحالي «تهدد وحدة الوطن» حسب تعبيره، وعليه استلزم الأمر إعمال المادة 74 من الدستور المصري، والتي تنص على أن «لرئيس الجمهورية إذا قام خطر يهدد الوحدة الوطنية أو سلامة الوطن أو يعوق مؤسسات الدولة عن أداء دورها الدستوري، أن يتخذ الإجراءات السريعة لمواجهة هذا الخطر»، فكان قرار الاعتقال.
اليوم، يمر 35 عامًا على ما عرف وقتها بـ«اعتقالات سبتمبر»، التي شملت ما يزيد عن 1536 من رموز المعارضة السياسية في مصر، إلى جانب عدد من الكتاب والصحفيين ورجال الدين، بجانب إلغاء إصدار الصحف المعارضة، في مشهد لن ينساه التاريخ، خاصة أن بعض المحللين يضعوه بين الأسباب الرئيسية لاغتياله في حادثة المنصة بعدها بشهر واحد.
«المصري اليوم» تعيد نشر حلقات عن الواقعة قدمتها للقراء منذ 10 سنوات، في ملف فتحه الزميل محمد السيد صالح، رئيس تحرير الجريدة، مع كافة الأطياف، حول آرائهم في الاعتقالات التي سبقت اغتيال السادات بشهر واحد، من خلال مجموعة من الحوارات والتقارير، ليضع الضوء حول هذا الحدث وملابساته وأثره، فالتاريخ مرآة الأمم، يعكس ماضيها، ويستلهم من خلاله الدروس لمستقبلها.
****
مبارك التزم الصمت في «شهر المحنة» فتباينت الآراء حول موقفه من الاعتقالات
محمد السيد صالح
٦/ ٩/ ٢٠٠٦
بينما كان الرئيس السادات مشغولاً بتوجيه خطابات للأمة في الفترة ما بين ٥ سبتمبر وموته فوق المنصة يوم ٦ أكتوبر ١٩٨١، كان نائبه حسني مبارك شبه عازف عن الكلام رغم المهام الضخمة التي أوكلت إليه.
كان السادات يعتقد أن لديه مخزوناً ضخماً من الكلمات والمواقف والاتهامات التي طالت جميع أطياف الشعب، ابتداءً من المشهورين من الشيوخ والساسة والقساوسة وانتهاء بخطباء المساجد في أزمة القاهرة والمحافظات.
ورصدنا نحو ثمانية خطابات شعبية للسادات في هذا الشهر، وكلها تضمنت جديداً عن الاعتقالات وتبريرات حبس كل هذا العدد، حتي إن السادات، وعندما لم يجد من يخطب فيهم، دعاه الاتحاد التعاوني لصائدي الأسما، الذي تم نشره علي صفحتين كاملتين، وقال السادات لهم: إن المرحلة المقبلة ستشهد مزيداً من الانضباط والقضاء علي التسيب وعدم الانضباط.
والسؤال الذي مازال يفرض نفسه، أين كان مبارك من كل هذه الأمور..؟، وفي إطار محاولات البحث عن إجابة علي هذا السؤال وجدنا أن المتاح تحت أيدينا هو أن نائب الرئيس نفذ كل ما تم تكليفه به من جانب رئيسه السادات، لكن لم تظهر مواقفه بشكل علني، فلم تسجل الصحف ولا شهود العيان علي هذه الفترة أي كلمات ساخنة لمبارك، مثل التي قالها رئيس مجلس الشعب صوفي أبو طالب في مجلس الشعب يوم ٥ سبتمبر، ووصف ما يحدث بالثورة المباركة، أو كلمات رئيس مجلس الشوري محمد صبحي عبدالحكيم التي اقتربت من هذه المعاني الكبيرة. مبارك بوصفه نائباً للرئيس وأمينا عاماً للحزب الوطني وصف الاستفتاء علي قرارات الرئيس العشرة بأنه تأكيد للشرعية الدستورية وسيادة القانون ولدولة المؤسسات التي تقوم علي حكم الشوري.. وحتي هذه الكلمات المقتضبة يبدو أنها مأخوذة من نص بيان صادر عن الحزب، يدعو فيه الرأي العام للمشاركة الإيجابية في الاستفتاء.
كان السادات قد كلف مبارك بمهام محددة أسماها «ثورة السلوك» وخلال هذه الفترة، كتبت الصحف أن مبارك ترأس جلسة مهمة لمجلس الوزراء، ناقش خلالها مجموعة من الدراسات المقترحة من جهات علمية، وأن من أهم هذه الأوراق الملف الاجتماعي.
أما أخطر مهام مبارك في هذه الفترة، وآخر زياراته للخارج كنائب رئيس، فكانت للولايات المتحدة، والتقي خلال هذه الزيارة، التي بدأت يوم ٢ أكتوبر واستمرت يومين، الرئيس ريجان ونائبه جورج بوش، وقالت الصحف في هذه الفترة إن المباحثات ركزت علي ٣ قضايا مهمة، هي: عملية السلام وتنشيط مباحثات الحكم الذاتي بين إسرائيل والفسطينيين، وشرح تطورات الأوضاع الداخلية في مصر، خاصة أن زيارة السادات الأخيرة لواشنطن ووجهت بحملة انتقادات واسعة، خاصة من أقباط المهجر، ومناقشة أزمة صادرات طائرات الاستطلاع المتقدمة أواكس للسعودية والتي ضغط اللوبي الصهيوني لإفشالها.. وتردد في حينها أن مصر بذلت جهداً كبيراً - رغم تجميد العلاقات بين مصر والسعودية نتيجة لحملة المقاطعة العربية - في إنجاح الصفقة وإقناع واشنطن بأن مثل هذه الصفقات هي لتأمين عملية السلام.
ورغم وضوح أنشطة مبارك في جميع هذه الملفات، واحتفاء الصحف بصوره ووصف ما يقوم به علي اعتبار أن تصريحاته كانت مقتضبة، بل شبه غائبة حينما كان نائباً، فإن دوره في اعتقالات سبتمبر ظل أمراً خلافيا. ففريق محدود قال إنه اطلع علي جميع أسماء المعتقلين وراجعها جيداً بتوجيهات من السادات، البعض الآخر يقول إنه لم يكن له أي دور في هذه الحملات تماماً وإنه كان ينأي بنفسه عن هذه العملية.
لكن النبوي إسماعيل في حديثه لمحمود فوزي في كتابه «جذور المنصة» يقف بين الرأيين ويقول:
كان لمبارك رأي فعلاً يختلف.. ولم يكن مقتنعاً بهذه الإجراءات.. كما كان له رأي في بعض الأشخاص وبالذات السياسيون.. فقد كان متعاطفاً معهم خصوصاً مع شخصيات معينة لم يكن المبرر كافياً للتحفظ عليهم.. منهم المرحوم فتحي رضوان والمرحوم فؤاد سراج الدين وغيرهما، فرد السادات علي «مبارك» قائلاً: الكلام ده كان ممكن يكون بدري عن كده.